الإهداءات | |
الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح ملتقى للمواضيع الاسلامية العامة التي لا تنتمي الى أي قسم اسلامي آخر .. وقصص الصالحين من الاولين والاخرين . |
« آخـــر الــمــواضــيــع » |
كاتب الموضوع | طويلب علم مبتدئ | مشاركات | 1 | المشاهدات | 983 | | | | انشر الموضوع |
| أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
30 / 08 / 2009, 25 : 01 PM | المشاركة رقم: 1 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| المنتدى : الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد مرّت بي كما مرّت بغيري حالات لأناس عرفناهم وعاشرناهم وطلبوا معنا أو علينا بعضًا من العلم لمدة طالت أو قصرت ثم رأيناهم بعد ذلك قد انتكسوا –عياذًا بالله- وانحرفوا ليس عن طلب العلم فحسب بل عن التدين بعامة، وحسب بعضهم أن يصلي الصلوات الخمس ولو في غير وقتها -ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم-. حُدثتُ عن بعضهم أنه صار في أحوال متردية؛ معاقرة للخمور، ومجالسة لأهل اللهو والفجور، وتقحمًا لفظائع الأمور، وتسكعًا مع البنات، على النواصي والطرقات، وكثيراً ما يتصلن عليه في بيت أبيه وأمه. وآخر صار يتعامل بالربا، أويسرق أموال الناس ويأكلها بالباطل. وثالث كان محاميًّا وترك مهنته لما رأى فيها من شبهات، ثم هاهو الآن قد عاد إلى مهنته الأولى وصار يأخذ القضايا التي كان بالأمس يعدها من التحاكم إلى غير الله تعالى. هذا بعض من نماذج كثيرة عرفناها أو سمعنا عنها ممن انحرف إلى جانب الشهوات. ولا تسل عمن انحرف إلى جانب الشبهات فصار من المبتدعة بعد أن كان سنيًّا على الجادة، بل بعضهم قد صار إلى الزندقة والإلحاد أو الليبرالية والحداثة وأغرق في العناد –نسأل الله السلامة والعافية-. ألا وإن لهذه الانحرافات أسبابًا كثيرة تستدعي بسطًا لتحذر، كما يتعين معرفة أسباب الثبات ودوام الاستقامة ليعَض عليها المرء بنواجذه –مستعينًا يالله تعالى معتصمًا به- "ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم". غير أنني في هذه المقالة أود أن أنبه على أمر أُراه سببًا لانحرافات كثيرة؛ ألا وهو هذه الثنائية المقيتة التي أفرزتها بعض مناهج الدعوة، و ساهمت في ترسيخها بعضُ الطروحات، وصاحَب ذلك حماسٌ وسوءُ فهم وضيقُ عطن من جمهرة من المتلقين. هذه الثنائية مفادها: "أن المرء إما أن يكون طالب علم ثم عالمًا، وإما أنه غير ملتزم بل هو من أهل الدنيا الملعونة الملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا ومتعلمًا". وقد أفرز هذا الطرح الغالي زهدًا في سائر أبواب الخير التي يمكن أن يُخدم الدين من خلالها. بل إنه أورث لدى بعضٍ تزهيدًا في أعظم ثمار العلم وهو الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أن ذا لا يكون إلا بعد التحصيل والتمكن، وأن مخالطة الناس لدعوتهم وتغيير ما فشا فيهم من منكرات مضيعة للأوقات. مما أخرج أناسًا إن خاطبوا الجماهير خاطبوهم من أبراج عاجية غير مكترثين بمشاعرهم ولا مستشعرين لقضاياهم ومشكلاتهم. والمقصود -يا محب- أنه وفقًا لسنة الله الكونية التي لا تتغير ولا تتبدل لم يفلح كثير ممن سلك طريق التدين في طلب العلم إما لضيق ذات اليد وإما لعدم الاستعداد الذهني وإما لعوائق اجتماعية أو أمنية أو غير ذلك، ومهما يكن من شيء فكل ميسر لما خلق له. وقد انحرف منهم جم غفير كما سبق. وكان من المفترض على أهل العلم والناصحين أن يتفطنوا في مواهب هؤلاء فيوجهونهم إلى ما يحسنون لتنتفع الأمة بجهودهم ويسدوا ما يحسنون من ثغور. وكم سئلت وسئل غيري من بعض طلبة الطب أو الصيدلة أو الهندسة فضلًا عمن دونها من المجالات الدراسية عن منهج علمي شرعي يدرسونه، وبعضهم كان يريد ترك كليته ليتفرغ لطلب العلم! بل بعضهم قد تخرج بالفعل ومارس وظيفته ثم لما سمع عن فضل العلم تحمس وأراد ترك وظيفته ليتفرغ للتحصيل –زعم-. وفي هذا من الفساد ما لايخفى على لبيب. فقد خلت هذه المجالات وأخواتها من المتدينين، وصرت لا ترى عامة المتدينين إلا في المسجد للصلاة أو على بابه لبيع السواك والعطور والأشرطة الدينية ونحوها. فلم يعد لشباب الصحوة تأثير في المجتمع ولا هم يوجدون في مواقع التأثير والتغيير. وصار حالهم كما قال الأول: ويُقضَى الأمر حين تغيب تيم*** ولا يُستأمرون وهم شهود وقد كنت أوجه بعضهم إلى ما أراه نافعًا له، إذ كان يظهر لي من حاله عدم تأهله لمجال الطلب. ولا ريب أن هذا محض النصيحة الواجبة ولو أغضب ذلك المنصوح أو غيره. يُذكر عن العلامة النابغة الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى أن رجلًا جاءه ليتعلم العروض، ورأى الخليل -لنباهته وفطنته وبعد نظره- أن الرجل لا يصلح لتعلم هذا الفن، فأعطاه بيتًا ليقطعه، وهو: إذا لم تستطع شيئاً فدعه*** وجاوزه إلى ما تستطيع وكان الرجل فطنًا كذلك، ففهم المقصود، واتجه إلى علم النحو فنبغ فيه. إننا بحاجة إلى مربٍّ فطن يحسن توجيه المواهب فيما تحسنه وتوظيفها فيما يعود بالنفع على صاحبها وعلى أمته كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فيوظف مواهب أصحابه فيما يحسنونه. ألا ترى –وُفِّقتَ- أن زيد بن ثابت رضي الله عنه -وكان فتى موهوبًا نابغًا – قد أعجب النبي صلى الله عليه وسلم بموهبته فأمره أن يتعلم السريانية فتعلمها، وحذقها في سبعة عشر يوماً أو خمسة عشر يومًا، على اختلاف الروايات. خرج أحمد والترمذي وغيرهما من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال "أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كلمات كتاب يهود. قال « إنى والله ما آمن يهود على كتاب ». قال فما مر بى نصف شهر حتى تعلمته له قال فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. أليس في نحو هذا يقول بعض أغرار شبابنا: إن هذا مضيعة للوقت؟! وهذا الوقت الذي أقضيه في تعلم اللغة، الأولى بي قضاؤه في قراءة القرآن، فقراءة القرآن أفضل، أو في حفظ حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- أوغير ذلك. لكن هذا باب خير ومجال لابد أن يسلك وثغر لابد أن يسد في هذه الأمة، فتصدى زيد رضي الله عنه لهذه المهمة. والنبي صلى الله عليه وسلمقد أعطانا درساً في هذه القضية، حاصله: أن كل ميدان من ميادين الخير لابد أن يكون في الأمة من يتولاه، نعم؛ ربما يكون مفضولاً في العموم، لكنه بالنسبة للشخص المعين قد يكون أفضل له من غيره. إن مسألة تفاضل الأعمال وما يقال فيها بل وما دلت عليه الأدلة فيها إنما هي في الجملة من حيث العموم والإطلاق، أما من حيث الشخص المعين أو الزمان المعين أو المكان المعين فقد يصير المفضول أفضل. لذا قرر أهل العلم أنه قد يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والتنوع قد يكون في الوجوب تارة وفي الاستحباب أخرى . فالأول؛ مثل ما يجب على قوم الجهاد، وعلى قوم الزكاة، وعلى قوم تعليم العلم، وهذا يقع في فروض الأعيان وفي فروض الكفايات. ففروض الأعيان؛ مثل ما يجب على كل رجل إقامة الجماعة والجمعة في مكانه مع أهل بقعته، ويجب عليه زكاة نوع ماله بصرفه إلى مستحقه لجيران ماله، ويجب عليه استقبال الكعبة من ناحيته والحج إلى بيت الله من طريقه، ويجب عليه بر والديه وصلته ذوي رحمه والإحسان إلى جيرانه وأصحابه ومماليكه ورعيته ونحو ذلك من الأمور التي تتنوع فيها أعيان الوجوب وإن اشتركت الأمة في جنس الوجوب، وتارة تتنوع بالقدرة والعجز، كتنوع صلاة المقيم والمسافر والصحيح والمريض والآمن والخائف . وفروض الكفايات تتنوع تنوع فروض الأعيان، ولها تنوع يخصها؛ وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره، فقد تتعين في وقت ومكان وعلى شخص أو طائفة، وفي وقت آخر أو مكان آخر على شخص آخر أو طائفة أخرى،كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهاد والفتيا والقضاء وغير ذلك. وأما في الاستحباب فهو أبلغ ؛ فإن كل تنوع يقع في الوجوب فإنه يقع مثله في المستحب، ويزداد المستحب بأن كل شخص إنما يستحب له من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى التي يقول الله فيها : { وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } ما يقدر عليه ويفعله وينتفع به، والأفضل له من الأعمال ما كان أنفع له، وهذا يتنوع تنوعا عظيما، فأكثر الخلق يكون المستحب لهم ما ليس هو الأفضل مطلقا ؛ إذ أكثرهم لا يقدرون على الأفضل، ولا يصبرون عليه إذا قدروا عليه، وقد لا ينتفعون به، بل قد يتضررون إذا طلبوه مثل من لا يمكنه فهم العلم الدقيق إذا طلب ذلك فإنه قد يفسد عقله ودينه، أو من لا يمكنه الصبر على مرارة الفقر ولا يمكنه الصبر على حلاوة الغنى، أو لا يقدر على دفع فتنة الولاية عن نفسه والصبر على حقوقها . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل { إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك }. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر لما سأله الإمارة : "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم". ورُوي عنه أنه قال للعباس عمِّه : "نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها". ولهذا إذا قلنا : هذا العمل أفضل فهذا قول مطلق. ثم المفضول يكون أفضل في مكانه، ويكون أفضل لمن لا يصلح له الأفضل. مثال ذلك: أن قراءة القرآن أفضل من الذكر بالنص والإجماع والاعتبار . أما النص؛ فقوله صلى الله عليه وسلم { أفضل الكلام بعد القرآن أربع - وهن من القرآن - سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر }. وقوله صلى الله عليه وسلم { فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه }. وقوله عن الله : { من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين }. وقوله : { ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه }. { وقول الأعرابي له إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمني ما يجزيني في صلاتي فقال : قل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر }. وأما الإجماع على ذلك؛ فقد حكاه طائفة ولا عبرة بخلاف جهال المتعبدة. وأما الاعتبار؛ فإن الصلاة تجب فيها القراءة، فإن عجز عنها انتقل إلى الذكر، ولا يجزيه الذكر مع القدرة على القراءة، والمبدل منه أفضل من البدل الذي لا يجوز إلا عند العجز عن المبدل . وأيضًا فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبرى كما تشترط للصلاة الطهارتان، والذكر لا يشترط له الكبرى ولا الصغرى. فعلم أن أعلى أنواع ذكر الله هو الصلاة، ثم القراءة، ثم الذكر المطلق. ثم الذكر في الركوع والسجود أفضل بالنص والإجماع من قراءة القرآن. وكذلك كثير من العباد قد ينتفع بالذكر في الابتداء ما لا ينتفع بالقراءة ؛ إذ الذكر يعطيه إيمانا والقرآن يعطيه العلم ؛ وقد لا يفهمه ؛ ويكون إلى الإيمان أحوج منه لكونه في الابتداء، والقرآن مع الفهم لأهل الإيمان أفضل بالاتفاق . فهذا وأمثاله يشبه تنوع شرائع الأنبياء؛ فإنهم متفقون على أن الله أمر كلًّا منهم بالدين الجامع، وأن نعبده بتلك الشرعة والمنهاج. كما أن الأمة الإسلامية متفقة على أن الله أمر كل مسلم من شريعة القرآن بما هو مأمور به إما إيجابًا وإما استحبابًا وإن تنوعت الأفعال في حق أصناف الأمة، فلم يختلف اعتقادهم ولا معبودهم ولا أخطأ أحد منهم ؛ بل كلهم متفقون على ذلك يصدق بعضهم بعضا".اهـ. فتأمل -حفظك الله- هذا الكلام النفيس من هذا الإمام المحقق رحمة الله عليه. واستحضر دائمًا هذه القاعدة الشرعية الشريفة، وهي أنه "قد يعتري المفضول ما يجعله أولى من الفاضل"، كقراءة القرآن هي أفضل من الدعاء في الجملة، لكن في بعض المقامات والأحوال والأوقات يكون الدعاء أفضل، كآخر ساعةٍ يوم الجمعة أو يوم عرفة للحاج، بل قدنهينا عن القراءة في الركوع والسجود، وأمرنا فيهما بتعظيم الرب جل جلاله، والاجتهاد في الدعاء. وتطبيقات هذه القاعدة كثيرة. ومنها: أن القراءة عن الطوائف المنحرفة -كالقاديانية والبهائية والعلمانية وغيرها من الطوائف والنحل، ومعرفة كل ما يتعلق بها ليست بأفضل -من حيث هي- من القراءة في القرآن وتفسيره، ودواوين السنة وشروحها، لكن الأمة محتاجة إلى سد هذا الثغر، فهذا المفضول لو أتاه امرؤ وأحسن القيام به -مع تأهله لذلك ومسيس الحاجة إليه فيه- فقد يصير في حقه فاضلا. وقل مثل هذا فيمن تخصص في الأدب فتفرغ له حفظاً وقراءةً ونقداً ومدارسةً لكتبه ومدارسه؛ واعيًا بأن جزءاً من معركتنا ميدانها الأدب، فهَب لسد هذا الثغر منازلةً للأدب المنحرف. ومصداق ذلك هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث كان إذا خرج إلى الجهاد يخلف بعض أصحابه أميراً على المدينة، كما خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أهله في غزوة تبوك، ولما سأله عن ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟". فالجهاد – لاريب- أفضل من القعود عنه، لكن الأفضل في حق علي رضي الله عنه هنا هو القعود. ألا فليُعقل أن الثغور كثيرة، ولابد من سدها بالكفاءات، وأن تنوع المواهب والميول أمر إيجابي يجب أن يوظف توظيفًا صحيحًا، وإنكاره أو عدم مراعاته ضرب من ضيق العطن والمكابرة. إن الأمر المهم هو توجيه عموم المسلمين للعمل لدينهم أيًّا كانت مواقعهم،وزرع هذا الشعور فيهم. وحينئذ فستختلف -لامحالة- أساليب العاملين وتوجهاتهم، وتتنوع طرقهم في سبيل إحياء الأمة وإيقاظها وتغيير حالها؛ فمنهم من يرى أن الجهل قد تفشى في الأمة، وأن إحياءها بإزالة غشاوة الجهل عنها، فيُعنى بالعلم تحصيلا وتأصيلا، تعلمًا وتعليمًا ودعوةً إليه. ورجل ثانٍ يرى أن هذه الأمة إنما كانت خير أمة أخرجت للناس لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فراح يسخر وقته وجهده لإنكار المنكرات الظاهرة؛ العامة والخاصة، فاستغرق عليه ذلك جهده ووقته، ورأى أن هذا هو الطريق الذي ينبغي أن يسلك لإنقاذ الأمة، وأنه بمثل هذا العمل يدفع الله العذاب عن الناس، إذ بتركه يفشو الخبث ويحل الهلاك. وثالث قد تألم لحال من استهواهم الشيطان؛ فوقعوا في الانحراف والرذيلة، فسخر وقته وجهده لدعوة هؤلاء وإنقاذهم، وليس هو فقيهًا ولا عالمًا، لكنه يدعو بما عنده من علم، ولا يقفو ما ليس له به علم، رائده في ذلك قولُ النبي:salla2: "بلغوا عني ولو آية". ورابع قد رق قلبه للأكباد الجائعة والبطون الخاوية؛ فصار ينفق من نفيس ماله، ويجمع الأموال من أهل الخير فينفقها في وجوه البر من أرامل وفقراء ومساكين وغيرهم. وخامس رأى أن هذه الأمة أمة جهاد، وأنه لا سبيل لرفع الذل عنها إلا برفع رايته، فحمل روحه على كفه، وامتطى صهوة جواده، فهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه « من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه فى سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغى القتل والموت مظانه" خرجه مسلم في صحيحه. فيوماً تراه في المشرق، ويوماً تراه في المغرب، وما بين هنا وهناك يسعى للجهاد في سبيل الله، وأصبح لا يطرب أذنه ولا يشنفها إلا أزيز الرصاص وصوت السلاح. وسادس رأى أن هذا الدين دين الناس جميعاً؛ فسخر جهده لدعوة غير المسلمين، وإظهار محاسن الدين، ومناظرة المغرضين من الغربيين والمستشرقين ودعاة الشرك والإلحاد... وسابع سخر قلمه لخوض المعارك الفكرية دفاعاً عن الإسلام، ومصاولة لأعدائه، والمتحدثين زوراً باسمه، كتابةً وتأليفاً؛ فصار يتحدث عن مشكلات الأمة وعن قضاياها، وقد لزم هذا الثغر يواجه به أعداء الله. وثامن رأى أن عدة الأمة وأملها الأمة في شبابها وجيلها الناشئ؛ فسخر وقته لتربية الشباب وإعدادهم، وتنشئتهم على طاعة الله سبحانه وتعالى، ورأى أن هذا الطريق هو الذي يخرج العاملين والمجاهدين وينقذ الأمة. وتاسع رأى أن العصر عصر تقنية وتقدم حضاري مذهل، وأن الأمة صارت متأخرة في هذا الباب كثيرًا بعد أن كانت شمسها ساطعة على الغرب المظلم وقت أن كانت متمسكة بدينها وهويتها؛ فراح يتعلم من صور التكنولوجيا والتقنيات المعاصرة ما يغني به الأمة عن الحاجة إلى أعدائها، ومجالات هذا الباب من أبواب الخير لا تحصر، من علوم الطب والهندسة بأنواعهما، والفلك، وعلوم الطبيعة، وما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات بفروعها وتخصصاتها... وعاشر تيقن أن التقدم في زماننا إنما يحوزه من فاق في مجال الإعلام، وأن الإعلام العالمي بل والمحلي موجه لحرب الدين وإشاعة الفواحش والشهوات والشبهات، فصرف جهده في نشر الدين عبر الإعلام بشتى صوره المقروء والمسموع والمرئي. وهكذا ترى أبواباً من الخير وألواناً من نصرة الدين والدعوة إليه، وهي أبواب واسعة شتى تسع الجميع على اختلاف طاقاتهم وعقولهم وعلومهم ومداركهم وأفكارهم. وهنا يُتساءل: هل نضيق ذرعاً بهذا التنوع في وسائل الإحياء والتغيير؟ وهل هذا الاختلاف اختلاف تنوع أو تضاد؟ وهل يدعوناهذا للتكامل أم التآكل؟ وهل يلزمنا أن نبحث عن طريق واحد نسلكه في سبيل إنقاذ الأمة؛ لأن الحق لا يتعدد وصراط الله المستقيم إنما هو واحد لا يتعدد ولا يختلف؟ وهل لا يُخدم الدين إلا بطريقة واحدة فقط سواء كانت هي العلم، أو الجهاد، أو الدعوة...؟ تأمل معي –رعاك الله- طريقة القرآن والسنة وما كان عليه خير القرون عبر هذه الأمثلة لتعرف الجواب. يقول الله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون). ففي هذه الآية أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يخرجوا جميعاً إلى الجهاد؛ بل لابد أن ينفر من كل طائفة فئة، ويتفقه قوم في الدين، ثم ينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم. فهذه الطائفة لن تنفر للجهاد في سبيل الله، إنما ستتفرغ لتحصيل العلم الذي تتفقه فيه ثم تنذر قومها. فليس كل الأمة - إذن- سيتفقه، ولا كل المسلمين سيجاهدون، بل ولا يطلب منهم ذلك واحدا واحدا، وإنما ستتوزع الجهود، ويقوم كل بما ينفع المسلمين. ونحو هذا قول الله تعالى " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر". وكذلك قوله تعالى" فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون". وفي هذا إشارة واضحة إلى أن الناس من حيث العموم قسمان: أهل ذكر، وغيرهم. فليس كل الناس العلماء، ولا يطلب أن يكون الناس كذلك. وهذا يعم جميع المجالات. وقريب من هذا قوله جل وعلا "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منه". وقوله تعالى "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم". ونحو هذا من الآيات التي فيها أقسام الناس وتنوع أحوالهم. وفي هذه الآيات وما في معناها كما قال الشيخ السعدي في تفسير آية التوبة المذكورة"دليل وإرشاد وتنبيهٌ لطيفٌ لفائدةٍ مهمةٍ؛ وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يُعِدُّوا لكل مصلحةٍ من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب؛ فالأعمال متباينة والقصد واحد، وهذه من الحكمة النافعة في جميع الأمور". وفي السنة من ذلك الشيء الكثير. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبدالله هذا خير، فإن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة." فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، ما على من دعي من هذه الأبواب أو من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم" متفق عليه. إن لدخول الجنة طرقاً ووسائل شتى، فمن الناس من يكون من أهل الصلاة، ومنهم من يكون من أهل الصيام، ومنهم من يكون من أهل الجهاد، ومنهم من يكون من أهل الصدقة، فيدعى كل امرءٍ من باب عمله الذي كان يعمله، ولا يعني هذا أن الذي كان من أهل الصلاة لا يؤدي غيرها، فالجميع يؤدون الصلاة الواجبة، والجميع يؤدون الصيام، والجميع يؤدون الحج، وإنما اشتهر كل منهم بعمله لاستزادته فيه، وإكثاره منه دون غيره. ومن الناس من يوفق للجمع بين عدة أبواب من أبواب الخير، ومنهم أفذاذ يوفقون للضرب في كل باب بسهم وافر. لكن ليس كل الناس كأبي بكر رضي الله عنه. وحينئذ فلينظر امرؤ ما فتح له وبورك له فيه فليلزمه ولينافس فيه، وكل ميسر لما خلق له. والله سبحانه وتعالى يقول (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون). إن هذا التنوع سنة كونية لا يطلب من المرء شرعا أن يخالفها، بل لا سبيل إلى مخالفتها. وبها تقوم مصالح الناس، وتنتظم أمورهم. ومن أجل مراعاة هذا التنوع في مواهب الناس واحتياجاتهم تنوعت الوصايا النبوية بحسب حال السائلين والمستفتين. فتارة يقول لأحدهم: "لا تغضب"، مهما كرر عليه الاستيصاء، فالجواب لا يتغير. ويوصي الثاني بأن يقول " آمنت بالله، ثم يستقيم". وثالث يوصَى بكثرة السجود. ويوصِي أحدَهم أن يوتر قبل أن ينام، والآخر أن يقوم الليل... وهكذا فوصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- تختلف من شخص إلى آخر. بل كان يُسأل صلوات الله وسلامه عليه نفس السؤال من عدة أشخاص فيختلف الجواب. وذلك إذا سُئل عن أي العمل أفضل؟ أو أي الإسلام خير؟ أو أحب الأعمال إلى الله تعالى؟ فيجيب هذا بإجابة، وذاك بإجابة أخرى، وما ذاك إلا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرف أن كلاً منهم إنما تنفعه هذه الوصية أو هذه الإجابة دون غيرها تبعاً لحاله، لاختلاف أحوال الناس وتفاوتهم. أخي ******؛ إن من يتأمل واقع الأمة اليوم سيدرك عمق الخلل والانحراف فيه، وهو انحراف هائل ليس في جانب واحد فقط، بل هو متشعب في شتى مناحي الشبهات والشهوات، انحراف في الحكم، حيث الحكم بغير ما أنزل الله، وفي الاعتقاد بشتى صور الانحراف فيه، والشرك منتشر بجميع أنواعه وصوره، والجهل فاش، والفساد الأخلاقي طاغ، والفواحش والمنكرات ظاهرة ويتباهى بها، والأمية، والفقر، والتخلف، والتفرق، والاختلاف، والتشاحن... إلى غير ذلك، وحين تتسع أبواب الخلل والانحراف، فلابد أن تتسع أبواب الدعوة ومجالاتها، ولا بد أن تتنوع أساليب علاجها، مما يؤكد أهمية التخصص، وتفوق كلٍّ في مجاله، وهذا – وإن وعاه السلف ووجد فيهم ظاهرًا- إلا أنه قد لا تكون الحاجة إليه في السابق كالحاجة إليه في عصرنا، ففي السابق قد ترى الرجل موسوعة يقف على أبواب شتى من أبواب العلم والخير، وينتهض للقيام بها جميعًا، ويوفَّق في ذلك، أما الآن فقد تنوعت طرق الحياة وتعقدت أساليبها، وتسارعت حركتها، فلابد -إذن- للناس من التخصص. فواحد يتخصص في جانب من جوانب العلم الشرعي، والثاني في مشاكل الأمة الاجتماعية، وينظر في حال المعوزين والفقراء، ويتخصص الثالث في دعوة المنحرفين والضالين، ورابع في الإعلام، وخامس في السياسة... وهكذا كل امرء في ميدانه وفنه وما يحسنه. ولنضرب مثالاً يعطي صورة واضحة عن الحاجة الفعلية للتكامل وسد الثغور كل في مجاله، فالجيش يحتاج إلى مجموعة في المقدمة للقيادة ومواجهة العدو، ويحتاج إلى مجموعة في الخلف يحرسون هؤلاء، ومجموعة يترصدون، ويحتاج إلى مجموعة فنيين يقومون بصيانة الآلات وإعدادها، ومجموعة يقومون بنقل الذخائر، ومجموعة للتمويل ونقل المواد الغذائية، ومجموعة يحرسون ثغور المسلمين حتى لا يؤتوا منها على حين غرة، ومجموعة يخلفون الغازين في أهلهم، وهكذا تتوزع الجهود ويتكامل الجيش، ثم إنه لا يمكن أن يقوم أمره إلا بهذا التكامل. والموفَّق من يؤدي دوره في موقعه أيًّا كان، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا" طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة". ومن سبر حال خير القرون أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سيقف على هذا واضحاً. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أرحم أمتي بأمتي أبوبكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبوعبيدة". فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يخص كل واحد من أصحابه المذكورين بخصيصة يثني عليه بها؛ فأبوبكر كان أرحم الأمة بالأمة حيث كان رجلاً رقيقاً بطبعه، وعمر -رضي الله عنه- رجل فيه شدة، فكان أشد بأمر الله سبحانه وتعالى، وعثمان حيي حتى إن الملائكة لتستحيي منه ... وهكذا بقية الصحابة يتفاوتون فيما بينهم. كلٌّ له ميدانه الذي يؤدي فيه، ويفضُل فيه غيرَه، ولا يعني ذلك أنه أفضل من غيره مطلقًا. فمعاذ بن جبل رضي الله عنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وهذا لا يعني أنه أفضل من أبي بكر رضي الله عنه لمجرد كونه أعلم الأمة بالحلال والحرام. وإنما معايير التفضيل أعم من ذلك. وإرسال النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا وأبا موسى رضي الله عنهما إلى اليمن، لأنهما أنسب من غيرهما، لكن لا يعني ذلك أنهما أفضل من غيرهما بإطلاق. ثم إرسالهما أيضًا خير لهما وللأمة من بقائهما في المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلمان ويتعبدان ويصليان في المسجد النبوي الذي الصلاة فيه بالأف صلاة في مساجد اليمن. ولما سئل علي رضي الله عنه عن أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "عن أيهم تسألوني؟ قالوا: عبدالله بن مسعود؟ قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى وكفى به علماً. قلنا: أبي موسى؟ قال: صبغ في العلم صبغة ثم خرج منه. قلنا: حذيفة؟ قال: أعلم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- بالمنافقين. قالوا: سلمان؟ قال: أدرك العلم الأول والعلم الآخر، بحر لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت. قالوا: أبي ذر؟ قال: وعى علماً عجز عنه. فسئل عن نفسه، فقال: كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتديت". وهذا سيف الله وسيف رسوله خالد بن الوليد -رضي الله عنه- ذو المناقب المشهورة والفضائل المأثورة، وقد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأعجب بشجاعته وإقدامه فأخبر أنه سيف من سيوف الله. يقول عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: "ما عدل بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبخالد في حربه أحداً منذ أسلمنا". وقد احتبس خالد رضي الله عنه أدراعه واعتده في سبيل الله عز وجل. كما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعًا. وفي غزوة حنين جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخلل الناس يبحث عن خالد -رضي الله عنه- فنفث في جرح كان قد أصابه. وهو الذي يقول عبارته المشهورة: "ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس، أنا لها محب بأحب إلي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح فيها العدو". ويقول: "لقد شهدت زهاء مائة زحف، وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة من سيف، أو طعنة من رمح". ومع ذلك يقول: "لقد منعني كثيراً من قراءة القرآن الجهادُ في سبيل الله". ويُروَى أن سبب هذه المقولة أنه صلى بالناس إماماً فأخطأ في قراءته. لقد فاق خالد رضي الله عنه في ميدان الجهاد، حتى شغله عن غيره من العبادات، ولذا لا تكاد تجد له فتوى، أو قولاً في تفسير آية من كتاب الله. ألا إن ذلك -وايم الله- ليس منقصًا من درجته العلية ورتبته السنية. وهذا أبو ذر رضي الله عنه أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم والعمل، قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد قال في ذلك كما علقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم" والقصة بتمامها عند أبي نعيم في الحلية " لو وضعتم الصمصامة على هذه - وأشار إلى قفاه - ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها ". ومع كل هذه الفضائل يقول له النبي -صلى الله عليه وسلم- الناصح الأمين: " يا أبا ذر؛ إني أراك ضعيفا،ً وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم". و ذلك لأنه لا يصلح لهذه الولاية، لا لعدم أمانته -وحاشاه- لكن شرط الولاية ليس هو الأمانةَ فقط، بل لابد من القوة مع الأمانة كما قال تعالى" إن خير من استئجرت القوي الأمين"، وفي قصة سليمان بن داود عليهما السلام "قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين". فهذان شرطان في كل ولاية، والقوة -بعدُ- هي المقدمة. وكلٌّ ميسر لما خلق له. وقد عقد ابن القيم -رحمه الله- مقارنة بين ابن عباس وأبي هريرة -رضي الله عنهم- فقال: "وهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن مقدار ما سمع من النبي صلى الله عليه و سلم لم يبلغ نحو العشرين حديثا الذي يقول فيه سمعت ورأيت، وسمع الكثير من الصحابة، وبورك في فهمه والاستباط منه حتى ملأ الدنيا علما وفقها. قال أبو محمد بن حزم : وجمعت فتاويه في سبعة أسفار كبار. وهي بحسب ما بلغ جامعها، وإلا؛ فعلم ابن عباس كالبحر، وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس وقد سمع كما سمعوا وحفظ القرآن كما حفظوا، ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي وأقبلها للزرع فبذر فيها النصوص فأنبتت من كل زوج كريم { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }. وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره ؟ وأبو هريرة أحفظ منه بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درسًا فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وبلّغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها ". أجل... لكل ميدانه، بل الميدان الواحد قد يؤتى فيه شخص مالا يؤتاه غيره؛ ففي ميدان العلم نجد أبا هريرة أحفظ، وابن عباس أفقه للعلم... ثم إنه ليس كل الصحابة علماء، ولا كلهم يفتون، بل حتى المفتون منهم ما بين مكثر ومقل ومتوسط، كما قرره ابن القيم في إعلام الموقعين، ومن قبله ابن حزم . فالتنوع -إذن- أمر قد وَسِع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فليسع غيرهم. وهكذا التابعون وأتباعهم وأتباع أتباعهم-رحمهم الله- يتفاوتون فيما بينهم. قال ابن المبارك: "رأيت أعبد الناس عبدالعزيز بن أبي رواد، وأورع الناس الفضيل بن عياض، وأعلم الناس سفيان الثوري، وأفقه الناس أبوحنيفة، ما رأيت في الفقه مثله". وقال أبو عبيد: "انتهى العلم إلى أربعة: أبوبكر ابن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له". وحين ضاق فهم بعض الناس عن ذلك وكتب إلى إمام دار الهجرة –مالك بن أنس- رحمه الله يلومه لانشغاله بالعلم والتعليم عن كثير من التعبد القاصر نفعه؛ ويحضه على الانفراد والعمل –واسمه عبد الله العمري، العابد- ؛ كتب له مالك -رحمه الله- يقول: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر". لله دره! ما أفهمه! إن مالكًا رحمه الله كان بإمكانه أن يرد على الرجل بذكر النصوص التي فيها أن العلم أفضل من التعبد المحض، وأن النفع المتعدي يفضل النفع القاصر، لكن تراه يقرر له - ليَفهم- أن الأعمال مقسومة كالأرزاق، والناس فيها متفاوتون، وأن كل متقرب إلى الله فهو على خير، ويقول له متواضعًا: "وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه". ثم يقول له: "وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر". ليت شعري متى يفقه العاملون في مجالات الخير المتنوعة ذلك؟ متى يدركون أن الواجب عليهم التعاون على البر والتقوى، وعدم تحقير جهود الآخرين وأدوارهم؟ متى يكف المرء عن السعي إلى حمل الناس على ما يحب ظنا منه أن ذلك هو المحبوب الوحيد إلى الله، والطريق المتعين موصلا إلى الله؟ إننا لو وضعنا عبارة مالك الإمام هذه نبراسًا لنا لارتفعت إشكالات كثيرة، وتغيرت نظرتنا لكثير من الأمور والأشخاص والأعمال، متمثلين: (كلانا على خير وبر) لنصل إلى معرفة أن الوسائل كلها مطلوبة؛ بل لابد من القيام بها جميعاً، فلتقم طائفة بهذا العمل، وأخرى بذاك، وثالثة بغيرهما، كل فيما يحسن، ولتستغل المواهب على تنوعها والطاقات على اختلافها في خدمة دين الله، وليدخل الجميع من أبواب متفرقة، يجمعها الصراط المستقيم الذي يسع اختلاف التنوع، ولتسد جميع الثغور، ولا يعيب بعضنا بعضاً؛ بل لسان حال كل طائفة من العاملين لدينهم: (كلانا على خير وبر). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في "اقتضاء الصراط المستقيم"، في سياق كلام له عن أنواع الخلاف، وأنه إما خلاف تنوع أوتضاد، ثم فصل في صور خلاف التنوع، ومما قال فيها: "ومنه ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريقة، وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسنٌ في الدين، ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم أحدهما أو تفضيله بلا قصد صالح أو بلا علم أو بلا نية". إن السلف -يا موفَّق- لم يكونوا بمعزل عن هذا، بل كانوا أفقهَ الناس له. وعباراتهم وأحوالهم تدل على ذلك دلالة واضحة. وقد كان منهم من لا يحدث إلا من يراه متأهلا لذلك بعد اختباره، كالأعمش وغيره، وكان الأعمش إذا قيل له: حدث، قال: (لا يقلد العلم الخنازير). وجاء هذا عن غير واحد من السلف. فليس كل أحد مؤهلا لأن يعطى العلم، بل لا يعطى العلم إلا من يستحقه. وكذلك ليس كل الأطفال مستعدين للعلم الشرعي، بل تختلف مواهبهم وتوجهاتهم، والموفَّق من ينشئ ولده على طاعة الله وحب دينه والسعي في خدمته ونصرته أيًّا كان موقعه، ولا يقتصر ذلك على طلب العلم. وإلا فمن حمل ولده على غير ما يصلح له؛ فإنه قد ظلمه بأن حمّله ما لايطيق من ناحية، وضيَّع عليه موهبته، وحرم الأمة من الاستفادة منه فيما يحسن القيام به. يقول الإمام العلامة المربي ابن القيم -رحمه الله- في تحفة المودود: "ومما ينبغي أن يتعهد: حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له فلا يَحمِله على غيره ما كان مأذونًًا فيه شرعًا، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه وفاته ما هو مهيأ له. فإذا رآه حسن الفهم صحيح الإدراك جيد الحفظ واعيًا فهذه من علامات قبوله وتهيئه للعلم لينقشه في لوح قلبه ما دام خاليًا فإنه يتمكن فيه ويستقر ويزكو معه. وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح وأنه لا نفاذ له في العلم ولم يخلق له؛ مكَّنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين. وإن رآه بخلاف ذلك وأنه لم يخلق لذلك ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع مستعدًّا لها قابًلا لها وهي صناعة مباحة نافعة للناس فليمكنه منها. هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاج إليه في دينه فإن ذلك ميسر على كل أحد لتقوم حجة الله على العبد فإن له على عباد الحجة البالغة كما له عليهم النعمة السابغة".اهـ. نعم؛ إن من أسس التربية الصحيحة أن لايسارَ بالمرء لغير مايحسن، إذ كلٌ ميسرٌ لما خلق له، فبعض الناس قد يكون عنده حماس وطاقة، وهو متفرغ وقادر على العمل، لكن إدراكه العقلي محدود وحافظته محدودة، وهو غير مؤهل لتعلم العلم الشرعي، فلا يعقل أن يطلب منه التدريس في حلقة علمية مثلاً، بل إن الأنسب لمثل هذا والأنفع له وللأمة أن يساهم في إنكار المنكرات، أو المشاركة في الأعمال الإغاثية، أو غيرها مما يصلح لحاله وينجح فيه. ولا يسوغ أن يطلب من إنسان سريع الغضب، ولا يجيد التعامل مع الآخرين أن يعمل في ميدان تربوي، لأن الميدان التربوي يحتاج إلى إنسان حسن المعاملة، طويل النَّفَس... وهكذا فكلٌ ميسرٌ لما خلق له. ثم إن الشهرة ليست هي المعيار على أفضلية العمل، ولا هي القيمة الحقيقية للعامل؛ فبعض الميادين تتطلب شهرة، كالخطابة والتأليف وغيرها مما يشهر بصاحبه ويجعله معروفاً بين الناس، وبعضها لا تتطلب شهرة فيكون صاحبها مغموراً، وهذا لا يعني أفضلية المشهور على المغمور، فالقضية ليست في الشهرة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "رب أشعث، أغبر ذي طمرين، مدفوع بالأبواب، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره". وقال عليه الصلاة والسلام "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي". فهذا العبد البعيد عن الأضواء، الخفي غير المشهور، يحبه الله سبحانه وتعالى، فليس هناك علاقة مطردة بين الشهرة وبين نصرة دين الله سبحانه وتعالى، فالعبرة بالإخلاص ومدى نفع العمل، وقد ينفع الله بهؤلاء المغمورين ويكتب لهم من الأجر ما لا يكتبه لغيرهم من المشهورين. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد أن ذكر تفضيل أحمد للجهاد، والشافعي للصلاة، وأبي حنيفة ومالك للعلم: " والتحقيق أنه لا بد لكل من الآخرين، وقد يكون كل واحد أفضل في حال كفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه رضي الله عنهم بحسب الحاجة والمصلحة". وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله تعالى في كلام له عن أفضل التطوعات، كما في الشرح الممتع على الزاد: "والصحيح: أنه يختلف باختلاف الفاعل؛ وباختلاف الزمن، فقد نقول لشخص: الأفضل في حقك الجهاد، والآخر: الأفضل في حقك العلم، فإذا كان شجاعًا قويًّا نشيطًا؛ وليس بذاك الذكي؛ فالأفضل له الجهاد؛ لأنه أليق به. وإذا كان ذكيًّا حافظًا قويَّ الحجة؛ فالأفضل له العلم، وهذا باعتبار الفاعل. وأما باعتبار الزمن؛ فإننا إذا كنا في زمن تفشى فيه الجهل والبدع، وكثر من يفتي بلا علم؛ فالعلم أفضل من الجهاد، وإن كنا في زمن كثر فيه العلماء؛ واحتاجت الثغور إلى مرابطين يدافعون عن البلاد الإسلامية؛ فهنا الأفضل الجهاد. فإن لم يكن مرجح، لا لهذا ولا لهذا؛ فالأفضل العلم. قال الإمام أحمد : العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته. قالوا: كيف تصح النية؟ قال: ينوي بتواضع، وينفي عنه الجهل. وهذا صحيح؛ لأن مبنى الشرع كله على العلم، حتى الجهاد مبناه على العلم، ويدل لهذا قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم}. فنفى الله أن ينفر المسلمون كلهم إلى الجهاد، ولكن ينفر طائفة ويبقى طائفة لتتعلم؛ حتى إذا رجع قومهم إليهم أخبروهم بما عندهم من الشرع، ولكن يجب في الجهاد وفي العلم تصحيح النية؛ وإخلاصها لله عز وجل، وهو شرط شديد؛ أعني: إخلاص النية، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: شرط النية شديد؛ لكنه حبب إلي فجمعته".اهـ. ومن نفيس الكلام في هذا ما قاله العلامة ابن القيم في طريق الهجرتين، قال رحمه الله تعالى: "والمقصود أن الطريق إلى الله واحد، فإنه الحق المبين، والحق واحد مرجعه إلى واحد، وأما الباطل والضلال فلا ينحصر ،بل كل ما سواه باطل، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل، فالباطل متعدد وطرقه متعددة. وأما ما يقع في كلام بعض العلماء أن الطريق إلى الله متعددة متنوعة جعلها الله كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها رحمة منه وفضلا؛ فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من وحدة الطريق. وإيضاحه؛ أن الطريق هي واحدة جامعة لكل ما يرضي الله، وما يرضيه متعدد متنوع، فجميع ما يرضيه طريق واحد ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، وكلها طرق مرضاته. فهذه التي جعلها الله لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة جدا لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ولو جعلها نوعًا واحدًا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا واحد بعد واحد. ولكن لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق ليسلك كل امرىء إلى ربه طريقًا يقتضيها استعداده وقوته وقبوله ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها إلى دين واحد مع وحدة المعبود ودينه ومنه الحديث المشهور "الأنبياء أولاد علات دينهم واحد". فأولاد العلات أن يكون الأب واحدًا والأمهات متعددة، فشبّه دين الأنبياء بالأب الواحد وشرائعهم بالأمهات المتعددة فإنها وإن تعددت فمرجعها إلى أب واحد كله. وإذا علم هذا؛ فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم قد وفر عليه زمانه مبتغيًا به وجه الله،ً فلا يزال كذلك عاكفا على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله ويفتح له فيها الفتح الخاص أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته. قال تعالى "ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله". وقد حكي عن جماعة كثيرة ممن أدركه الأجل وهو حريص طالب للقرآن أنه رؤي بعد موته وأخبر انه في تكميل مطلوبه وأنه يتعلم في البرزخ، فإن العبد يموت على ما عاش عليه. ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر. ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته وضاق صدره. ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقًا إلى ربه. ومن الناس من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغير قلبه وساءت حاله. ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته وهي أعظم أوراده. ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه. ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار. ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة ومراعاة الخواطر وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة". ثم ذكر حال من جمع تلك الطرق كلها -وهو نادر- فقال: "ومنهم الجامع الفذ السالك إلى الله في كل واد الواصل إليه من كل طريق فهو قد جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها أين كانت ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم فأين كانت العبودية وجدته هناك؛ إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذِكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أنَّى استقلت ركائبُها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربُها. لو قيل: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت جالبة ما ***ت مقتضية ما اقتضت جمعتني أو فرقتني ليس لي مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها مراقبًا له فيها عاكفًا عليه بالروح والقلب والبدن والسر قد سلمت إليه المبيع منتظرًا منه تسليم الثمن "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" فهذا هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة. ومعنى النفوذ إليه أن يتصل به قلبه ويعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه فيسلو به عن جميع المطالب سواه فلا يبقى في قلبه إلا محبة الله وأمره وطلب التقريب إليه. فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه واصطفاه وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره في معاشه ودينه وتولي تربيته أحسن وأبلغ مما يربي الوالد الشفيق ولده فإنه سبحانه القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه وآثره على ما سواه ورضي به من دون الناس حبيبًا وربًّا ووكيًلا وناصرًا ومعينًا وهاديًا. فلو كشف الغطاء عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له وشوقًا إليه وتقطع شكرًا له..." نسأل الله الكريم من فضله. فلا يحسن بعد ذلك -يا حبيب- أن يربى الناس على طريقة واحدة، ولا أن يسلك بهم طريق واحد، وإنما لكل إنسان طبيعة خاصة ويليق به طريق خاص، ولكل طريقة في التفكير، وطريقة في العمل، وشخصية مستقلة عن شخصية غيره، وقدرات تختلف عن قدرات الآخرين، فلا يسوغ أن يربى الشباب جميعاً على طريقة واحدة وفي إطار واحد، كأن يراد من الشباب أن يتحولوا كلهم إلى وُعَّاظ، أو طلبة علم، أو إلى ميدان من الميادين دون غيره، وإلا ستبقى ثغور تحتاج إلى من يسدها. فالواجب أن يكون هناك إطار عام للتربية، ويبقى- بعدُ- جانب يراعى فيه حال كل شخص على حدة ويتعاهد فيه، كما قال ابن القيم رحمه الله، وينظر إلى ما هو متوجه له، فيسار به إلى هذا الطريق، ما دام مأذوناً فيه شرعاً. والأبواب المأذون فيها شرعًا أبوابٌ كثيرة وواسعة، لن تضيق أبداً عن شباب المسلمين، بل لعلهم لا يستطيعون الإتيان عليها جميعاً وسدها، فضلاً عن أن تضيق عنهم. ثم لابد أن يربى هؤلاء جميعًا على أنه عندما يسلك أحدهم ميداناً من ميادين الخير بحسب استعداده له – وإن كان فاضلا- فإنه لا يسوغ له بحال أن يحقر أخاه السالك ميدانا آخر - وإن كان مفضولا-، فمن سلك طريق الجهاد لا يسوغ له أن يحقر طالب العلم، الذي حبس نفسه وفرغها للبحث في المسائل الفرعية والقضايا الدقيقة، وبالعكس. وليس لهما أن يحقرا جهد من سلم سبيل الدعوة، أو العمل الاجتماعي... فالكل على ثغر من ثغور الأمة يسده لخدمة دين الله سبحانه وتعالى ولإحياء الأمة، وأياً كان هذا الثغر فالكل على خير وبر، وكل هذه الأبواب مطلوبة ومرادة للأمة جميعاً. إن من المحزن حقًّا ذاك الجدل القائم على الساحة الإسلامية حول مناهج الدعوة، وهل ينبغي العناية بمحاربة البدع والخرافات، أو يعتنى بالعمل السياسي، أو بدعوة الضالين والمنحرفين، أو يعتنى بجانب الرقائق وتزهيد الناس في الدنيا، أو بنشر العلم، أو بإنكار المنكرات؟ وكلٌّ يحشد الأدلة والمؤيدات على أن هذا الطريق هو الذي ينبغي أن يسلك، وأن الطرق الأخرى كلها تأتي بعده. والحق أن هذه الميادين كلها مطلوبة؛ والكلام فيها كما سبق تقريره، والأمة بحاجة إلى من ينكر البدع، وإلى من يعلم العلم، وإلى من يجاهد في سبيل الله، كما هي بحاجة إلى من ينكر المنكرات، ومن يشارك في المجالات العامة والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية ... وكلُّها جهود خيرة ومطلوبة. وهذا الجدل لن يكون من وراءه إلا الشحناء، وتضييع شريف الأعمار، وإهدار طاقات الأمة فيما لا طائل من ورائه. ثم إنه إذا كان المرء لن يحيط بكل ما أُمر الناس به، فلا يكلفن نفسه ذلك، ولا يطالبن الناس به. وعليه؛ فمن تفرغ للعلم فليقصر نفسه عليه، ولا يطالبها أن تأتي بكمال عمل آخر من تفرغ لإنكار المنكرات، أو جهاد، أو غير ذلك، فهو لن يستطيع أن يأتي بكل هذه الأبواب على أكمل وجوهها، وما دام على خير فليلزمه، ومن الخطأ ومناقضة الواقع أن يحاول المسلم أن يحيط بكل أبواب الخير، فالمطلوب هو أن يسخر وقته وجهده لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، والدعوة إليه، وأبوابُ الدعوة ومجالات خدمة الدين واسعة ومتنوعة. وكذلك عليه أن لا يطالب الناس بهذا أيضاً، فمن الخطأ أن يطالَب عالم ومفت في القضايا العلمية بالتحدث عن قضايا فكرية، قد تحتاج إلى شخص آخر، أو أن يطالَب بالخروج المستحب للجهاد، أو التفرغ لإنكار المنكر، أو غيره. وكذا عندما نجد كاتباً يُعنَى بقضية المرأة، فيكتب ويحاضر ويخطب ويتحدث عنها، وصار متفرغًا للتخصص فيهاتأصيلا وتدقيقًا ومدافعة، فلا نطالبه أن يلقي محاضرة عامة وعظية-لا يحسنها- أو يكتب عن أمور تخص الشباب، أو عن قضية علمية شائكة أو عن قضية في واقع المسلمين، ثم إن لم يفعل عيّرناه وهدمنا جهوده الأخرى الفاضلة! فمن سلك طريقاً ينصر فيه الإسلام وأحسنه فإنه لا يطالب بغيره مما لا يحسنه، وإنما يستفاد منه في ميدانه. فعملُ كلٍّ في مجاله هو الأوفق والأصلح. لكن لابد من التنبيه على أنه قد يطبق التخصص على غير المراد منه، فيرجع بعض الناس تقصيره في الواجب عليه إلى التخصص، وهذا لا يسوغ بحال. فالواجبات المتعينة لا تترك بحجة التخصص، وهناك أمور واجبة على الجميع، كالعلم الشرعي ففيه قدر واجب على الجميع، وإنكار المنكرات الظاهرة هو واجب على من يراها، ويقدر على إنكارها، وهكذا سائر الواجبات الشرعية، فلا يسوغ أن تترك بحجة التخصص في ميدان معين. كما أن من الخلل التربوي غير السائغ أبدًا أن يكون عند المرء نقص فادح وهو يعاني من فقر مدقع في كافة الجوانب بحجة أنه متخصص، وإنما الذي ينبغي أن يكون فيه قدر من التكامل، ويأخذ علمًا من كل علم، ثم يتخصص ويأخذ من علم كلَّ علم. فمن توجه إلى طلب العلم-مثلًا-، وأنفق فيه نفيس وقته، لايسوغ له التفريط في عبادة الله عز وجل، وأن لا يتمعر وجهه إذا رأى معصية لله عز وجل، ولكن ينبغي عليه أن يتربى على عبادة الله عز وجل وطاعته، وعلى إنكار المنكر، و*** النفع للناس، وعلى كل أبواب الخير، ثم تكون غاية مطلوبه هو تحصيل العلم، قد صرف له كل همه، مع العناية بالجوانب الأخرى. وحينما يحصل خلل واضح في جانب من الجوانب، فإنه سيعود على الجوانب الأخرى بالإبطال. فمثلاً: عندما يكون طالب العلم قاسي القلب، فسيفقد الورع الذي يحتاج إليه في علمه وفي فتواه ومواقفه، وكذلك المربي حينما يكون قاسي القلب، أو يكون ضحلاً في العلم والاطلاع، لابد أن ينعكس هذا الخلل على عمله وجهده، وقد يفسد أكثر مما يصلح. فلابد إذن من التكامل مع التخصص، ولابد أن تكون شخصية الإنسان متوازنة. ثم إنه يجب الحذر من الإغراق في التخصص المبكر، فالصغار قد تكون توجهاتهم أولَ الأمر واستعداداتهم متقاربة، وكلما تقدمت بهم السن بدأت تتضح معالم شخصيتهم، فالتخصص المبكر يوقع في أخطاء، منها: الوقوع في الخلل؛ إذ لو بدأ من الصغر في التخصص، فسيقع في خلل ويفقد الجوانب الأخرى، وبالتالي لن تكون شخصيته متكاملة، وكذلك قد يتصور أنه إنما يصلح لهذا الميدان، بينما هو يصلح لغيره، فنقع في خطأ في تقويم الشخصية واستكشاف استعدادت الشخص ومواهبه، ولكن عندما يتأخر قليلاً في جانب التخصص، مع تحصيل أساسيات كل أبواب الخير فستُتجاوز -بإذن الله- تلك السلبيات. كما أنه لا ينبغي الاشتغال بالدون، فقد يكون من الناس من يصلح لميادين كثيرة فينبغي أن يختار الميدان الأولى والأليق به، من خلال حاجة المجتمع وحاجة الدعوة في هذا الميدان، أو من خلال أهمية هذا الميدان أو ذاك، فلا ينبغي أن ينشغل بالدون بحجة أنه قد أفلح ونجح وفتح له في هذا الباب، فهذا فيه إهمال وإهدار للطاقة، وبخس النفس حظها. وقد حُكي عن بعض القضاة أنه كان يقضي ويعلم الناس ويصلح بينهم، فلما قرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم "إماطة الأذى عن الطريق صدقة"؛ ترك القضاء، وانشغل بإماطة الأذى عن الطريق. فهذا قد انشغل بباب من أبواب الخير وشعبة من شعب الإيمان، ولكنه انشغل بأدنى شعب الإيمان، وترك الميدان الأنفع والأولى بأمثاله. وقد قال أبو الطيب: ولم أر في عيوب الناس عيبا*** كنقص القادرين على التمام ولابد -بعد هذا- من التكامل على مستوى الأمة، فقد يشتغل فرد بسد ثغر من الثغورحسب طاقته ومواهبه،ويُقَر على ذلك بل ويشجَّع عليه، ولكن على مستوى الأمة يجب أن تسد الثغور جميعاً، ويجب أن يكون هناك تكامل على مستوى مجالات الدعوة ، فهناك فرق بين الفرد وبين الأمة. كتبه ابن مفلح H'hgf ugl H, lkpvt dig; H, dEgl? | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
30 / 08 / 2009, 18 : 02 PM | المشاركة رقم: 2 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : طويلب علم مبتدئ المنتدى : الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح اكرمكم الله وجزاكم الله خيرا | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
For best browsing ever, use Firefox.
Supported By: ISeveNiT Co.™ Company For Web Services
بدعم من شركة .:: اي سفن ::. لخدمات الويب المتكاملة
جميع الحقوق محفوظة © 2015 - 2018