الإهداءات | |
الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح ملتقى للمواضيع الاسلامية العامة التي لا تنتمي الى أي قسم اسلامي آخر .. وقصص الصالحين من الاولين والاخرين . |
« آخـــر الــمــواضــيــع » |
كاتب الموضوع | أبو عادل | مشاركات | 35 | المشاهدات | 5391 | | | | انشر الموضوع |
| أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
09 / 02 / 2010, 04 : 05 PM | المشاركة رقم: 11 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح جعفر الصادق. استقبلت المدينة المنورة مولودًا من ذرية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ولد (جعفر الصادق بن محمد الباقر) وكان ذلك سنة 80هـ. نشأ جعفر في داصر الهجرة النبوية الشريفة، معتزًّا بنسبه؛ فجده لأبيه هو الإمام على بن أبي طالب -رضي الله عنه- وجده لأمه صديق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الخليفة (أبو بكر الصديق). استمع جعفر لنصائح والده الذي أخذ يقول له: (إياك والكسل والضجر، فإنهما مفتاح كل شر، إنك إن كسلتَ لم تؤدِّ حقًّا، وإن ضجرتَ لم تصبر على حق، إن طلب العلم من أداء الفرائض خير من الزهد) واستجاب جعفر لنصائح والده، فحفظ القرآن الكريم وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفهمهما فهمًا جيدًا، فلما بلغ جعفر مبلغ الشباب، ورأى آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلافهم مع الدولة الأموية، وشاهد عمه زيدًا قتيلا؛ بكى وحزن عليه حزنًا شديدًا، ورأى أن خير ما يقاوم به هذا الظلم هو كلمة الحق التي تنير طريق الناس وتحركهم للدفاع عن المظلومين. فقد تعلم من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن طلب العلم ونشره جهاد في سبيل الله، بل إنه فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأن الله تعالى جعل للعلماء مكانة بين الأنبياء والشهداء؛ فاهتم جعفر بعلوم الطبيعة والكيمياء والفلك والطب والنبات والأدوية إلى جانب دراسته للقرآن والحديث والفقه، وظل جعفر يدرس ويقرأ في كل العلوم؛ حتى أشرفت دولة بني أمية على الزوال؛ فأرسل إليه المؤيدون لآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينتهز الفرصة، ويأتي على الفور ليتولى خلافة المسلمين، ولكنه لم يشعر بقبول تجاه هذه الرسالة؛ فأحرقها!! لقد كان يشعر أنه بعلمه أقوى من أي ملك على وجه الأرض، ومضى الإمام جعفر الصادق يتعلم العلم ويعلمه الناس في تواضع فريد، يسأله الناس فيجيب دون كبر أو خيلاء، سأله أحد الناس: لقد قال الله تعالى: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] فما بالنا ندعوه فلا يجيب؟! فقال الإمام جعفر الصادق: لأنك تدعو من لا تعرف. وأحب الناس جعفر الصادق والتفوا حوله، فاغتاظ الخليفة المنصور، وحاول أن يحرج الإمام جعفر الصادق؛ فأمر أبو حنيفة (الفقيه المشهور) أن يهيئ له مسائل شدادًا يناقشه فيها، فقال أبو حنيفة: فهيأت له أربعين مسألة، والتقى الإمامان في حضرة الخليفة المنصور، فلم يلْقِ أبو حنيفة مسألةً إلا أجاب عنها الإمام جعفر الصادق، فقال أبو حنيفة في النهاية: (إن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس) لأن جعفر الصادق كان يجيب عن كل مسألة بما أجاب به كل الفقهاء السابقون ثم يأتي برأيه. وكان الإمام جعفر الصادق حليمًا لا يغضب؛ كان له غلام كسول يحب النوم، فأرسله يومًا في حاجة، فغاب، وخشي الإمام أن يكون الغلام قد أصابه مكروه، فخرج يبحث عنه، فوجده نائمًا في الطريق، فجلس عند رأسه، وأخذ يوقظه برفق حتى استيقظ، فقال له ضاحكًا: تنام الليل والنهار؟! لك الليل ولنا النهار. ولم يخش الإمام جعفر الصادق أحدًا إلا الله، فها هو ذا يقول للخليفة المنصور عندما سأله: لماذا خلق الله الذباب؟ بعد أن تضايق الخليفة من ذبابة كانت تحط على وجهه ولم يفلح في إبعادها، فقال الإمام: (ليذل به الجبابرة). وأقام الإمام في المدينة وقد جاوز الستين يعلم الناس ويفقههم، وفي الثامنة والستين من عمره سنة 148هـ توفي الإمام جعفر الصادق، فحزن الخليفة المنصور عليه حزنًا شديدًا وقال: توفي سيد الناس وعالمهم، وبقية الأخيار منهم، إن جعفرًا ممن قال الله فيهم: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} [ فاطر: 32 ]. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
09 / 02 / 2010, 04 : 05 PM | المشاركة رقم: 12 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح أبو حنيفة النعمان. كان كثير العبادة، لا ينام الليل إلا قليلا؛ حتى سموه (الوتد) لكثرة صلاته، يبكي حتى يسمع جيرانه بكاءه فيشفقون عليه مما هو فيه من خوف ووجل من الله!! وأبوه (ثابت) كان تاجرًا غنيًّا أسلم فحسن إسلامه، قيل: إنه التقى بالإمام على بن أبي طالب -رضي الله عنه- فدعا له الإمام ولذريته بالخيروالبركة، واستجاب الله الدعاء، ورزق الله ثابتًا بطفل أسماه النعمان وكناه (أبا حنيفة النعمان بن ثابت) وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة بمدينة الكوفة. نشأ أبو حنيفة في مدينة الكوفة، فوجد الحلقات العلمية منتشرة في كل مكان، ورأى طلاب العلم يتعلمون ويجتهدون في الدراسة؛ فتلقى العلم على يد شيوخ وأساتذة كبار، منهم: فقيه الكوفة (حماد بن أبي سليمان) والإمام (جعفر الصادق) و(عطاء) و(الزهري) و(قتادة).. وغيرهم، وكان(حماد) من أكثر شيوخه الذين يحبهم؛ فكان أبو حنيفة يحفظ أقواله ويرددها، وأعجب حماد هو الآخر بتلميذه (أبي حنيفة) حتى قال لمن حوله: لا يجلس في صدر الحلقة بجواري غير أبي حنيفة. وبعد موت حماد تولى ابن له اسمه إسماعيل حلقة الدرس بدلا من أبيه، لكنه ترك مجلس الفقه وانتقل إلى النحو لحبه له، فجاء الناس إلى (أبي حنيفة) يطلبون منه أن يجلس إليهم ويعلمهم أمور دينهم؛ فقبل أبو حنيفة، وأخذ يدرس للناس حتى اشتهر فقهه بين البسطاء والأمراء، لكنه لم ينْسَ فضل شيخه وأستاذه (حماد) بل ظل يذكره بالخير، ويدعو له حتى قال أبو حنيفة: (ما صليتُ قط إلا ودعوتُ لشيخي (حماد) ولكل من تعلمتُ منه علمًا أو علمته). وكان أبو حنيفة يهتم بملبسه ومظهره، ويكثر التعطر، ويُرى وقورًا حليمًا، فهو الذي يقول: (اللهم من ضاق بنا صدره، فإن قلوبنا قد اتسعت له) ولقد سبه أحد الناس بقوله: يا مبتدع، يا زنديق، فردَّ عليه بقوله: غفر الله لك، الله يعلم مني خلاف ذلك، وأني ما عدلت به (أي ما أشركت به أحدًا) منذ عرفته، ولا أرجو إلا عفوه، ولا أخاف إلا عقابه. وكان أبو حنيفة كريمًا واسع الكرم، وتاجرًا أمينًا ماهرًا، ظل يعمل بالتجارة طوال حياته، وكان له دكان معروف في (الكوفة) كان أبو حنيفة -رضي الله عنه- يحب العمل حتى ينفق على نفسه، فكان يبيع الخز (وهو نسيج من الصوف). سمع أبو حنيفة رجلاً يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل؛ فقال: والله لا يتحدث عني بما لم أفعل؛ فكان يحيي الليل صلاة وتضرعًا، فكان ورعًا، ولا يحدث بالحديث الذي يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ، وكان يتورع عن القسم خشية الهلاك، حتى إنه جعل على نفسه إن حلف بالله صادقًا أن يتصدق بدينار. وكان واسع الصدر هادئ الطبع في حديثه مع الناس، فلقد روي أن رجلاً قال له: اتق الله، فانتفض، وطأطأ رأسه، وأطرق.. وقال له: يا أخي جزاك الله خيرًا، ما أحوج الناس في كل وقت إلى من يذكرهم الله تعالى، وكان يخاف عاقبة الظلم؛ لذا رفض تولي القضاء للخليفة المنصور العباسي. ومات سنة 150هـ، وصلى عليه خمسون ألف رجل، ودفن في بغداد، ويقال إنه مات في نفس الليلة التي ولد فيها الإمام الشافعي. وأبو حنيفة هو مؤسس المذهب الحنفي أحد المذاهب الفقهية الأربعة، وقد انتشر مذهبه في العراق والهند وبلاد المشرق، يقول عنه الشافعي: (الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة) وقال عنه النضر بن شميل: كان الناس نيامًا في الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة، وقيل: لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح علمه عليهم، وقال عنه ابن المبارك: (ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة) وقال عنه يزيد بن هارون: (ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة). | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
09 / 02 / 2010, 05 : 05 PM | المشاركة رقم: 13 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح الليث بن سعد. لله درك يا إمام.. لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم: العلم، والعمل، والزهد والورع. في سنة 94هـ، وفي أحد أيامها المباركة ولد الليث بن سعد، في قرية (قرقشندة) من قرى مصر، ونشأ ذلك الطفل بين ربوع تلك القرية، فوجد الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة ويحفظون القرآن الكريم، فأسرع الليث إلى منزله، وأحضر أوراقه وقلمه، وبدأ يحفظ القرآن الكريم، ثم درس الحديث والفقه والعلوم العربية، فسبق زملاءه، وساعده على ذلك نبوغه المبكر، وذكاؤه الفريد. واصل الليث الدراسة والتعلم والحفظ، فكان كلما قرأ شيئًا في الفقه أو الحديث عَلَقَ بذاكرته وحفظه فلا ينساه أبدًا، فقد كان قوي الذاكرة، جيد الحفظ، ولفت الفتى الليث الأنظار إليه بعلمه وورعه، وأصبحت له مكانة كبيرة بين أهله، يعرفون فضله، ويقدمونه على من سواه، ولكن الفتى لم يغترَّ بهذه الشهرة، ولم يخلد إليها ولا إلى التقدير الذي كان له وسط العلماء، بل استمر يتعلم ويتزود وينهل من غيره من العلماء، حتى صار أستاذًا يدرس للعلماء. واشتاقت نفس الليث يومًا لزيارة بيت الله الحرام وزيارة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فشدَّ رحاله وأعد نفسه للسفر، وهناك في تلك الأراضي المقدسة كانت حلقات العلم منتشرة في كل مكان؛ والتقى هناك بـ(عطاء بن أبي رباح) و(ابن أبي مليكة) و(نافع مولى ابن عمر) و(ابن شهاب الزهري).. وغيرهم، فأخذ عنهم ونهل منهم رغم رسوخه في العلم، ومضت الأيام والسنون، وأصبح الليث شيخًا جاوز الخمسين من عمره، وهو لا يمل العلم والتعلم؛ حتى أصبح من كبار العلماء في عصره. وكان الإمام الفقيه الليث بن سعد غنيًّا، ينفق كل سنة على الفقراء والمساكين أكثر من خمسين ألف دينار ولا يدخر منها شيئًا لنفسه، ويتصدق في كل صلاة على ثلاثمائة مسكين، ويطعم الناس عسل النحل وسمن البقر في الشتاء، واللوز والسكر في الصيف. جاءته امرأة ذات يوم وقالت له: يا شيخنا، إن لي ابنًا مريضًا يشتهي أكل العسل، فقال الليث: يا غلام، أعطها مرطًا من عسل (والمرط: مائة وعشرون رطلاً) وكان مع المرأة إناء صغير الحجم، فلما رآه الغلام قال: يا شيخنا إنها تطلب قليلاً من العسل، فقال الليث: إنها طلبت على قَدْرِهَا ونحن نعطيها على قدرنا، وأمره أن يعطيها المرط. ولم يكن الليث بن سعد كريمًا على أهل بلده فحسب، بل كان سخيًّا كريم اليد على الآخرين، فيحكى عنه أنه لما جاء إلى المدينة المنورة بعث إليه الإمام مالك بن أنس بطبق من الرطب، فلم يشأ الليث أن يرد الطبق إلى الإمام مالك خاويًا، فوضع في الطبق ألف دينار ورده إليه. وقد شهد له كثير من علماء عصره بعلمه وفضله؛ سئل الإمام أحمد بن حنبل ذات مرة عن الليث، فقال: الليث بن سعد كثير العلم، صحيح الحديث، وقال عنه يحيى بن بكير: ما رأيت أحدًا أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة، لم أَرَ مثله. وقد عرض عليه الخليفة المهدي ذات يوم أن يتولى القضاء، ويعطيه من بيت المال مائة ألف درهم، فرفض وقال: إني عاهدت الله ألا ألي شيئًا، وأعيذ أمير المؤمنين بالله ألا أفي بعهدي، فقال له المهدي: الله.. قال الليث: الله.. قال المهدي: انطلق فقد أعفيتك، وكان الليث زاهدًا في حكام الدنيا، مشغولاً عن الجاه والسلطان بغرس الأخلاق العظيمة في نفوس الناس، وكان يصل النهار بالليل في العلم والعبادة ليرضي ربه. وفي سنة 175هـ توفي الإمام الكبير الليث بن سعد، فحزن الناس عليه حزنًا شديدًا، وكان الشافعي -رضي الله عنه- يحب لقاءه، فلم يمهله القدر فوقف يومًا على قبره وقال: لله درك يا إمام، لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم: العلم، والعمل، والزهد، والورع. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
09 / 02 / 2010, 12 : 05 PM | المشاركة رقم: 14 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح شريك بن عبد الله. القضاء.. العدل.. الظلم.. حق الناس.. حق الله.. كلمات أخذ يرددها شريك بينه وبين نفسه عندما عرض عليه الخليفة أن يتولى قضاء (الكوفة) فما أعظمها من مسئولية!! في مدينة (بُخارى) بجمهورية أوزبكستان الإسلامية الآن، وُلِدَ شريك بن عبد الله النخعي سنة خمس وتسعين للهجرة، ولمـَّا بلغ من العمر تسع سنوات أتم حفظ القرآن الكريم، ثم درس الفقه والحديث، وأصبح من حفـاظ أحاديث رسـول الـلـه صلى الله عليه وسلم. وفي مدينة الكوفة اشتهر بعلمه وفضله، فأخذ يعلم الناس ويفتيهم في أموردينهم، وكان لا يبخل بعلمه على أحد، ولا يُفَرِقُ في مجلس علمه بين فقيروغني؛ فيحكى أن أحد أبناء الخليفة المهدي دخل عليه، فجلس يستمع إلى دروس العلم التي يلقيها شريك، وأراد أن يسأل سؤالاً؛ فسأله وهو مستند على الحائط، وكأنه لا يحترم مجلس العلم، فلم يلتفت إليه شريك، فأعاد الأميرُ السؤالَ مرة أخرى، لكنه لم يلتفت إليه وأعرض عنه؛ فقال له الحاضرون: كأنك تستخف بأولاد الخليفة، ولا تقدرهم حق قدرهم؟ فقال شريك: لا، ولكن العلم أزين عند أهله من أن تضيِّعوه، فما كان من ابن الخليفة إلا أن جلس على ركبتيه ثم سأله، فقال شريك: هكذا يطلب العلم. وقد عُرِضَ عليه أن يتولى القضاء لكنه امتنع وأراد أن يهرب من هذه المسئولية العظيمة، خوفًا من أن يظلم صاحب حق، فعندما دعاه الخليفة المنصور، وقال له: إني أريد أن أوليك القضاء، قال شريك: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لست أعفيك.. فقبل تولي القضاء، وأخذ شريك ينظر في المظالم ويحكم فيها بالعدل، ولا يخشى في الله لومة لائم، فيحكى أنه جلس ذات يوم في مجلس القضاء، وإذا بامرأة تدخل عليه وتقول له: أنا بالله ثم بك يا نصير المظلومين، فنظر إليها شريك وقال: مَنْ ظلمك؟ قالت: الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين، فقال لها: وكيف؟ قالت: كان عندي بستان على شاطئ الفرات وفيه نخل وزرع ورثته عن أبي وبنيت له حائطًا، وبالأمس بعث الأمير بخمسمائة غلام فاقتلعوا الحائط؛ فأصبحت لا أعرف حدود بستاني من بساتينه؛ فكتب القاضي إلى الأمير: "أما بعد.. أبقى الله الأمير وحفظه، وأتم نعمته عليه، فقد جاءتني امرأة فذكرت أن الأمير اغتصب بستانها أمس، فليحضر الأمير الحكم الساعة، والسلام". فلما قرأ الأمير كتاب شريك غضب غضبًا شديدًا، ونادى على صاحب الشرطة، وقال له: اذهب إلى القاضي شريك، وقل له -بلساني- : يا سبحان الله!! ما رأيت أعجب من أمرك! كيف تنصف على الأمير امرأة حمقاء لم تصح دعواها؟ فقال صاحب الشرطة: لو تفضل الأمير فأعفاني من هذه المهمة، فالقاضي كما تعلم صارم، فقال الأمير غاضبًا: اذهب وإياك أن تتردد. فخرج صاحب الشرطة من عند الأمير وهو لا يدري كيف يتصرف، ثم قال لغلمانه: اذهبوا واحملوا إلى الحبس فراشًا وطعامًا وما تدعو الحاجة إليه، ومضى صاحب الشرطة إلى شريك، فقال القاضي له: إنني طلبت من الأمير أن يحضر بنفسه، فبعثك تحمل رسالته التي لا تغني عنه شيئًا في مجلس القضاء!! ونادي على غلام المجلس وقال له: خذ بيده وضعه في الحبس، فقال صاحب الشرطة: والله لقد علمت أنك تحبسني فقدمت ما أحتاج إليه في الحبس. وبعث الأمير موسى بن عيسى إليه بعض أصدقائه ليكلموه في الأمر فأمر بحبسهم، فعلم الأمير بما حدث، ففتح باب السجن وأخرج مَنْ فيه، وفي اليوم التالي، عرف القاضي شريك بما حدث، فقال لغلامه: هات متاعي والحقني ببغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر (أي القضاء) من بني العباس، ولكن هم الذين أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا أن نكون فيه أعزة أحرارا. فلما عرف الأمير موسى بذلك، أسرع ولحق بركب القاضي شريك، وقال له: يا أبا عبد الله أتحبس إخواني بعد أن حبست رسولي؟ فقال شريك: نعم؛ لأنهم مشوا لك في أمر ما كان لهم أن يمشوا فيه، وقبولهم هذه الوفادة تعطيل للقضاء، وعدوان على العدل، وعون على الاستهانة بحقوق الضعفاء، ولست براجع عن غايتي أو يردوا جميعًا إلى السجن، وإلاَّ مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته من القضاء، فخاف الأمير وأسرع بردِّهم إلى الحبس، وجلس القاضي في مجلس القضاء، واستدعى المرأة المتظلمة وقال: هذا خصمك قد حضر.. فقال الأمير: أما وقد حضرت فأرجو أن تأمر بإخراج المسجونين، فقال شريك: أما الآن فلك ذلك. ثم سأل الأميرَ عما تَدَّعيه المرأة، فقال الأمير: صدقت.. فقال القاضي شريك: إذن ترد ما أخذت منها، وتبني حائطها كما كان.. قال الأمير: أفعل ذلك، فسأل شريك المرأة: أبقي لك عليه شيئًا؟ قالت: بارك الله فيك وجزاك خيرًا، وقام الأمير من المجلس وهو يقول: مَنْ عَظَّمَ أمرَ اللِه أذل الله له عظماء خلقه، ومات القاضي شريك سنة 177 هـ. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
19 / 02 / 2010, 51 : 05 PM | المشاركة رقم: 15 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح مالك بن أنس. بُشِّر أنس بن مالك بن أبي عامر ذات يوم ببشرى سعيدة، فقد رزقه الله بمولود أسماه (مالكًا) كان ذلك الحدث السعيد سنة ثلاث وتسعين من الهجرة على بقعة من أطهر بقاع الأرض وهي المدينة المنورة، البلد الذي هاجر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فاستنارت بهم وازدانت. فتح مالك عينيه على الحياة، فوجد التقدير والمهابة يعم المدينة وأهلها، وكيف لا وقد حوى ترابها جثمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودفن فيها، وضمت أرجاؤها حلقات العلم التي تنتشر في كل مكان. نشأ الطفل في أسرة تشتغل بالعلم، فجده (مالك بن أبي عامر) من كبار التابعين فشجعه ذلك على حفظ القرآن الكريم، فأتم حفظه وأتقن تلاوته، لكنه لم يكتفِ بذلك بل إنه أراد حفظ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهب إلى أمه وقال لها: يا أماه إني أحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأريد أن أحفظ أحاديثه، فكيف لي بذلك؟! ابتسمت أمه ابتسامة صافية، وضمته إليها، ثم ألبسته ثيابًا جميلة وعممته وقالت له: اذهب إلى (ربيعة الرأي) -وكان فقيهًا كبيرًا- وتعلم من أدبه قبل علمه. فجلس الطفل الصغير -مالك بن أنس- يستمع إلى شيخه وينهل من علمه، وبعد انتهاء الدرس يسرع بالجلوس تحت ظلال الأشجار ليحفظ ما سمعه من معلمه؛ حتى لا ينساه، وقد رأته أخته ذات مرة وهو على هذه الحال؛ فذهبت إلى أبيها وقصت عليه ما شاهدته، فقال لها: يا بنيتي إنه يحفظ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان مالك بن أنس كغيره من الأطفال الصغار يحب اللعب؛ فشغله ذلك عن الدرس والعلم قليلاً إلى أن حدث له موقف كان له أثر كبير في حياته، فقد سأله أبوه يومًا في مسألة هو وأخوه النضر، فأصاب النضر، وأخطأ مالك في الرد على السؤال؛ فغضب منه والده، فكانت هذه الحادثة سببًا في عزمه على الجد والاجتهاد في العلم، فذهب من فوره إلى (ابن هرمز) وهو عالم كبير، فأخذ يتلقى العلم عليه سبع سنوات، وكان شديد الحرص على الاستفادة منه خلالها. قال (ابن هرمز) لجاريته في يوم من الأيام: انظري من بالباب، فلم تر إلا (مالكًا) فرجعت إلى الشيخ وقالت له: لا يوجد إلا ذلك الغلام الأشقر (تعني مالكًا) فقال لها: دعيه يدخل فذلك عالم الناس!! وتعلم منه مالك كيف يرد على أصحاب البدع والضلالات، وأراد مالك المزيد، فذهب إلى نافع (مولى عبد الله بن عمر) أحد الرواة العظام الذين رووا عن ابن عمر أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان ينتظره في شدة الحر يترقب خروجه من منزله، ثم يصطحبه إلى المسجد، حتى إذا ما انتهى (نافع) من أداء الصلاة ومكث برهة؛ انتهز الصبي الصغير الفرصة وسأله في الحديث والفقه، فنهل من علمه وأخذ عنه ما في رأسه من نور رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لازم مالك بن أنس المحدث الكبير (ابن شهاب الزهري) ليتعلم على يديه، وحرص على ألا يفوته درس من دروس هذا الشيخ، حتى يوم العيد نفسه وهو اليوم الذي يلهو فيه الصبيان ويمرحون، روي عن مالك أنه قال: شهدت العيد، فقلت: هذا يوم يخلو فيه ابن شهاب، فانصرفت من المصلى حتى جلست على بابه، فسمعته يقول لجاريته: انظري من بالباب، فنظرت، فسمعتها تقول: مولاك الأشقر مالك.. قال: أدخليه، فدخلت، فقال: ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك؟ قلت: لا، قال: هل أكلت شيئًا ؟ قلت: لا، قال: اطعم، قلت: لا حاجة لي فيه، قال: فما تريد؟ قلت: تحدثني.. قال لي: هات، فأخرجت ألواحي، فحدثني بأربعين حديثًا فقلت: زدني، قال: حسبك، إن كنت رويت هذه الأحاديث (أي يكفيك هذه الأحاديث إن كنت حفظتها) فأنت من الحفاظ، قلت: قد رويتها، فجذب الألواح من يدي، ثم قال حدث، فحدثته بها، فردها إليَّ.. أي الألواح. ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكًا في العلم والفقه، والحفظ، والعزة ولم يجلس للفتوى حتى شهد له سبعون من جلة العلماء أنه أهل لذلك، يقول الإمام مالك: (ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل تراني موضعًا لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك، فقال له رجل: فلو أنهم نهوك؟ قال مالك: كنت أنتهي، لا ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى يسأل من هو أعلم منه). اشتهر الإمام مالك بكتابه (الموطأ) وهو كتاب حديث وفقه معًا، جمع فيه ما قوي عنده من حديث أهل الحجاز وأضاف إليه أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ثم رتبه على أبواب الفقه كالطهارة والصلاة والزكاة، وقد عمل في هذا الكتاب نحو أربعين عامًا، وقد تلقاه الناس بالقبول، وسمى مالك كتابه بهذا الاسم لأنه مهد به للناس ما اشتمل عليه من الحديث والفقه، أو لأن العلماء المعاصرين له بالمدينة واطئوه ووافقوه عليه، وقد طُبِعَ الكتاب كثيرًا في مصر والهند. والإمام مالك هو مؤسس المذهب المالكي الذي انتشر في المغرب العربي وبلاد الأندلس وصعيد مصر، فهذا هو مالك بن أنس شيخ الأئمة، وإمام دار الهجرة، مات بالمدينة سنة 179هـ وهو ابن تسعين سنة. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
19 / 02 / 2010, 51 : 05 PM | المشاركة رقم: 16 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح أبو يوسف. في مدينة الكوفة ولد أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري سنة 113هـ، وتطلع إلى العلم والدراسة فلم يجد خيرًا من مجلس الفقيه الكبير (أبي حنيفة) فتتلمذ على يديه، ودرس عنده أصول الدين والحديث والفقه. ولصحبته لأبي حنيفة قصة يرويها لنا (أبو يوسف) فيقول: كنت أطلب الحديث والفقه عند أبي حنيفة، وأنا مقل (يعني قليل المال) رث الحال والهيئة، فجاءني أبي يومًا فانصرفت معه، فقال لي: يا بني، لا تمد رجلك مع أبي حنيفة (أي لا تذهب إليه) فإن أبا حنيفة خبزه مشوي (يقصد أنه غني وقادر على أن يعيش عيشة كريمة) وأنت تحتاج إلى معاش (عمل حتى تنفق على نفسك ولا تنقطع للعلم)، فقصرت عن كثير من الطلب (أي طلب العلم) وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه؛ فقال لي: ما شغلك عنا ؟ قلت: الشغل بالناس وطاعة والدي، وجلست حتى انصرف الناس، ثم دفع لي صرة وقال: استمتع بها. فنظرت فإذا فيها مائة درهم وقال: الزم الحلقة وإذا أفرغت هذه (إذا أنفقتها) فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما قضيت مدة يسيرة، دفع إليَّ مائة أخرى، ثم كان يتعهدني (يرعاني) وما أعلمته بقلة قط، ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه يخبر بنفادها وظل كذلك حتى استغنيت. ولم يكن لأبي حنيفة تلميذ في نجابة أبي يوسف وذكائه، فقد استمر في تلقي العلم حتى حفظ التفسير والحديث والمغازي وأيام العرب، وسار أبو يوسف على نهج أستاذه أبي حنيفة في الفقه، إلا أنه كانت له اجتهادات خاصة به، وألف كتبًا كثيرة أشهرها كتاب (الخراج) وهو رسالة في إدارة المال العام والقضاء، وقد قربه الخليفة (هارون الرشيد) إليه، وولاه القضاء، ومنحه لقب قاضي القضاة، وكان يستشيره في أمور الدين والدنيا. وفي عام (182هـ) مات أبو يوسف وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنني لم أجر في حكم حكمت فيه بين اثنين من عبادك تعمدًا، وقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وكلما أشكل عليَّ أمر جعلت أبا حنيفة بيني وبينك، ومات الفقيه أبو يوسف، فحزن عليه الناس جميعًا؛ وقال صديقه أبو يعقوب الحريمي: (اليوم مات الفقيه).. فرحم الله أبا يوسف وأسكنه فسيح جناته. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
19 / 02 / 2010, 28 : 06 PM | المشاركة رقم: 17 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح الشافعي. قال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى في قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن!! في غزة بأرض فلسطين سنة 150هـ، وضعت (فاطمة بنت عبد الله الأزدية) مولودها (محمد بن إدريس الشافعي) في نفس العام الذي توفي فيه الإمام (أبو حنيفة) ليموت عالم ويولد عالم، يملأ الأرض علمًا ويحيي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويلتقي الشافعي مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الجدِّ الأعلى. فتح الشافعي عينيه على الحياة، فلم يجد والده بجانبه، حيث مات بعد ولادته بزمن قصير، فنشأ يتيمًا، لكن أمه الطاهرة عوضته بحنانها عن فقدان أبيه، وانتقلت به أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، ففيها أهله وعشيرته وعلماء الإسلام، وظلت تربيه تربية صالحة، وترعاه، وتأمل أن يكون من العلماء الصالحين؛ الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. حفظ الشافعي القرآن الكريم وسنه سبع سنين، ثم شرع في حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه تشجعه وتشد من أزره وتحنو عليه، ولما كان الشافعي لا يقوى على دفع أجر المحفظ أو شراء الورق الذي يسجل فيه محفوظاته؛ كان يطوف شوارع وطرقات مكة يجمع قطع الجلود وسعف النخيل وعظام الجمال ليكتب عليها!! وكما أتقن الشافعي تحصيل العلم أتقن الرمي، حتى كان يرمي عشرة سهام، فلا يخطئ في سهم واحد منها، ثم أرسلته أمه إلى قبيلة (هذيل) في البادية، وهي قبيلة معروفة بالفصاحة والبلاغة؛ فمكث بينهم سبع سنين يتعلم لغتهم، ويحفظ أشعارهم، حتى عاد إلى مكة فصيح اللسان، ينشد الأشعار، ويذكر الآداب وأخبار العرب إلى أن اتجه إلى طريق الفقه والحديث، فرحل الشافعي إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلتقي بعالم المدينة الإمام (مالك بن أنس) إمام دار الهجرة، ولما التقي به قال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن. وأخذ الشافعي بتلك النصيحة الغالية، فما مال إلى شرٍّ، ولا جنح إلى لهو أو مجون، بل كان قانعًا بما قسم الله له، يرضى بالقليل، ويقنع باليسير، ويزداد زهدًا كلما وقف على قيمة الدنيا، ويعيش في محراب الحق مسبحًا مناجيًا، يعبد الله بلسانه وقلبه، وظل الشافعي يتتلمذ على يد الإمام (مالك) حتى انتقل عالم المدينة إلى جوار ربه، لكن الشافعي رحل من بلد إلى أخرى، يتعلم على أيدي علمائها وشيوخها، فتعلم في العراق على يد (محمد بن الحسن) تلميذ أبي حنيفة وغيره، وهناك ظهرت صلابة الشافعي وقوته وقدرته على التحمل والصبر؛ حيث إن بعض الوشاة قد اتهموه عند أمير المؤمنين (هارون الرشيد) بالتشيع ومناصرة العلويين، ولكنه استطاع بثقته في الله ورباطة جأشه أن ينفي هذه التهمة عن نفسه. ثم ترك بغداد إلى مكة حيث تعلم على يد (مسلم بن خالد الزنجي) و(سفيان بن عيينة) وفي الحرم المكي أخذ الشافعي يلقي دروسه، وحضر مجلسه أناس من جميع الأقطار والبلدان، والتقى به كبار العلماء وخاصة في مواسم الحج، ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة 195هـ، وكان له بها مجلس علم يحضره العلماء يستزيدون من علمه، ويقصده الطلاب من كل مكان. وجاء الشافعي إلى مصر في عام 198هـ، لينشر مذهبه فيها، وليبتعد عن جو الاضطرابات السياسية في العراق، وألقى دروسه بجامع (عمرو بن العاص) وأحبه المصريون وأحبهم، وبقي في (مصر) خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة والرد على الخصوم ومن أشهر مؤلفاته: كتاب (الأم) في الفقه، وكتاب (الرسالة) في أصول الفقه، وهو يُعدُّ أول كتاب يُصنف في هذا العلم. وقد لقي الشافعي تقديرًا كبيرًا من فقهاء عصره ومن بعدهم، سأل عبد الله بن أحمد بن حنبل والده عن الشافعي فقال: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن. وقيل فيه : ومَنْ يَكُ عِلمُ الشافعي إمَامــهَ فمرتعه في باحة العلم واســع وكان أحمد بن حنبل -أحد تلاميذه- يحرص على ألا يفوته درس الشافعي، ويقول لأحد أصحابه: (يا أبا يعقوب، اقتبس من الرجل، فإنه ما رأت عيناي مثله) وكان (سفيان بن عيينة) أستاذ الشافعي يستفسر منه عن بعض الأحكام الفقهية التي لم يقف عليها. وكان الشافعي يقضي الساعات الطوال في دروس متصلة، ينتقل من علم إلى علم، يجلس في حلقته إذا صلى الفجر، فيأتيه من يريدون تعلم القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء طلاب الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا انتهوا جاء بعدهم من يريدون تعلم العربية والعروض والنحو الشعر، ويستمر الشافعي في دروسه من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الظهر!! وكما كان الشافعي فقيهًا ومحدثًا كبيرًا، كان أيضًا شاعرًا رقيقًا فاض شعره بالتقرب إلى الله، فها هو ذا يستغفر الله ويدعوه قائلا: ولما قَسا قَلْبي وضاقَتْ مذاهبـــي جعلتُ رجائي نحو عفوِك سُلَّمــًا تعاظَمَني ذَنبْي فلمَّا قِرَنْتُــــــــهُ بعفْـوِكَ ربِّي كــان عفُوك أَعْظَمـا ويوصي الشافعي من خلال شعره بألا نرد على السفيه قائلاً: إذا نطق السفيه فلا تجبـــــــه فخير من إجابته السكــــــوت فإن كلمته فرجت عنــــــــه وإن خليته كمــدًا يمـــــوت ويصور عزة نفسه، وإن كانت ثيابه قديمه بالية، فتحتها نفس أبية عزيزة غالية لا مثيل لها فيقول: عليَّ ثياب لو يباع جميعهــــا بفلس لكان الفلس منهـن أكْثـَرا وفيهن نفسٌ لو يُقاسُ ببعْضِهــا نفوسٌ الورى كانت أجلَّ وأكْبَرا ومرض الشافعي، وقربت ساعة وفاته؛ فدخل عليه أحد أصحابه وقال له: كيف أصبحت؟ فأجاب الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ومن كأس المنية شاربًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الكريم سبحانه واردًا، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها. ومات الشافعي ليلة الجمعة من آخر رجب عام 204هـ، وبعد صلاة العصر خرجت الجنازة من بيت الشافعي (بمصر) مخترقة شوارع الفسطاط وأسواقها، حتى وصلت إلى درب السباع؛ حيث أمرت السيدة نفيسة -رضي الله عنها- بإدخال النعش إلى بيتها، ثم نزلت إلى فناء الدار وصلت عليه صلاة الجنازة، وقالت: رحم الله الشافعي إنه كان يحسن الوضوء. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
19 / 02 / 2010, 32 : 06 PM | المشاركة رقم: 18 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح أحمد بن حنبل. خرجت صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني من مدينة (مرو) وهي تحمل في بطنها جنينًا، وما إن وصلت إلى بغداد حتى ولدت (أحمد بن حنبل) في شهر ربيع الأول سنة 164هـ. كان والده قائدًا في جيش خراسان، أما جده فكان واليًا للأمويين في بلدة تسمى (سرخس) تابعة لبلاد خراسان، وحين بلغ أحمد من العمر ثلاث سنوات توفي والده، فنشأ يتيمًا، تكفله أمه وترعاه، وتقوم على تربيته والعناية به، وعاش أحمد عيشة فقيرة، فلم يترك له والده غير منزل ضيق، مما دفعه إلى العمل وهو طفل صغير، فكان يلتقط بقايا الزروع من الحقول بعد استئذان أهلها، وينسج الثياب ويبيعها، ويضطر في بعض الأوقات أن يؤجر نفسه ليحمل أمتعة الناس في الطريق، وكان ذلك عنده أفضل من أن يمد يده إلى غيره. حفظ أحمد القرآن الكريم، ولما بلغ أربع عشرة سنة، درس اللغة العربية، وتعلم الكتابة، وكان يحب العلم كثيرًا حتى إن أمه كانت تخاف عليه من التعب والمجهود الكبير الذي يبذله في التعلم، وقد حدث ذات يوم أنه أراد أن يخرج للمكان الذي يتعلم فيه الصبية قبل طلوع الفجر، فجذبته أمه من ثوبه، وقالت له: يا أحمد انتظر حتى يستيقظ الناس. ومضت الأيام حتى بلغ أحمد الخامسة عشرة من عمره فأراد أن يتعلم أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كبار العلماء والشيوخ، فلم يترك شيخًا في بغداد إلا وقد استفاد منه، ومن شيوخه: أبو يوسف، وهشيم بن مشير. وفكَّر أحمد أن يطوف ببلاد المسلمين ليلتقي بكبار علمائها وشيوخها لينقل عنهم الأحاديث التي حفظوها، فزار الكوفة والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن، والشام والعراق وفارس وغيرها من بلاد الإسلام، فكان في رحلاته إذا لم يجد دابة يركبها يمشي حتى تتشقق قدماه ليلتقي بكبار العلماء في هذه البلاد، وظل أحمد طيلة حياته ينتقل من بلد إلى آخر، ليتعلم الحديث حتى أصبح من كبار العلماء. سأله أحد أصحابه ذات يوم: إلى متى تستمر في طلب العلم، وقد أصبحت إمامًا للمسلمين وعالمًا كبيرًا؟! فقال له: (مع المحبرة إلى المقبرة) ومعنى ذلك أنه سيستمر في طلب العلم إلى أن يموت ويدخل القبر، ولم يكن في عصره أحد أحفظ منه لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى سَمَّوْه (إمام السنة وفقيه المحدثين) وقالوا: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث!! شملت المكرر من الحديث والآثار، وفتوى التابعين ونحو ذلك. وبعد أن تعلم الإمام أحمد بن حنبل ما تعلم، وحفظ ما حفظ من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس في المسجد الجامع ببغداد سنة (24هـ) وعمره أربعون سنة، ليعلم الناس أمور دينهم؛ فأقبل الناس على درسه إقبالا عظيمًا، فكانوا يذهبون إلى المسجد في الصباح الباكر ليتخذوا لهم مكانًا يجلسون فيه. وكان أغلى شيء عند الإمام أحمد بن حنبل ما جمعه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك كان يكتبه في أوراق يحفظها في مكان أمين، وقد حدث ذات يوم أن سرق لص منزله، فأخذ ملابسه وكل ما في بيته، فلما جاء الإمام أحمد إلى البيت، لم يسأل عن شيء إلا عن الأوراق التي يكتب فيها أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولما وجدها اطمأن قلبه ولم يحزن على ما سرق منه. ولم يكن الإمام أحمد بن حنبل مجرد حافظ لأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل كان يعمل بما في هذه الأحاديث، فيقول عن نفسه: ما كتبتُ حديثًا إلا وقد عملتُ به، وكان الإمام أحمد زاهدًا في الدنيا، يرضى بالقليل، فقد كان كثير العبادة والذكر لله. وقد تعرض الإمام أحمد -رضي الله عنه- للتعذيب والأذى بسبب شجاعته من مواجهة الفتن والبدع التي حدثت في زمانه، تلك الفتن التي تعرض من أجلها للضرب والسجن في عهد الخليفة المعتصم، فكان يُضرب بالسياط، حتى أغمي عليه عدة مرات، ودخل السجن وظل فيه عامين ونصف، ثم خرج منه مريضًا يشتكي من الجراح، وظل في منزله بعض الوقت؛ حتى شفي وعاد إلى درسه، ولما تولى الخليفة (الواثق) الخلافة لم يتعرض الإمام أحمد للإيذاء، لكنه منعه من الاجتماع بالناس، فظل معزولاً عنهم، حتى مات الخليفة (الواثق) وتولى (المتوكل) الخلافة الذي عامل الإمام أحمد معاملة حسنة وعرض عليه المال، فرفضه، لكنه ألح عليه أن يأخذه، فتصدق به كله على الفقراء. ورغم انشغال الإمام أحمد الشديد بالعلم وضيق وقته فإنه كان شديد الاهتمام بمظهره، فقد كان من أنظف الناس بدنًا، وأنقاهم ثوبًا، شديد الاهتمام بتهذيب شعر رأسه، وكان الإمام أحمد يميل إلى الفقراء، ويقربهم منه في مجلسه، وكان حليمًا، كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، وكان إذا جلس في مجلسه بعد العصر لا يتكلم حتى يُسأل، كما كان -رضي الله عنه- شديد الحياء، كريم الأخلاق، سخيًّا، وكان مع لينه شديد الغضب لله. والإمام أحمد مؤسس المذهب الحنبلي أحد المذاهب الفقهية الأربعة، وقد ترك الإمام أحمد كتبًا كثيرة منها: (المسند) وهو أكبر كتبه وأهمها بل هو أكبر دواوين السنة النبوية، إذ يحتوي على أربعين ألف حديث، وكتاب (الزهد) و(الناسخ والمنسوخ). ومرض الإمام أحمد -رضي الله عنه- واشتد عليه المرض يوم خميس، فتوضأ، فلما كانت ليلة الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 241هـ، وفي بغداد صعدت روحه إلى بارئها، فحزن عليه المسلمون حزنًا شديدًا، وصاح الناس، وعلا بكاؤهم، حتى كأن الدنيا قد ارتجت، وامتلأت السكك والشوارع، وأخرجت الجنازة بعد انصراف الناس من صلاة الجمعة، وشيعه ما يقرب من ست مائة ألف إنسان، بالإضافة إلى الذين صعدوا إلى أسطح المنازل ليلقوا نظرة الوداع الأخيرة على الإمام أحمد بن حنبل. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
19 / 02 / 2010, 37 : 06 PM | المشاركة رقم: 19 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح الجويني. بين أحضان والدين حريصين على تنشئة أبنائهما تنشئة إسلامية صحيحة، ولد عبد الملك بن عبد الله بن يوسف سنة 419هـ في جوين (وهي مدينة بين بسطام ونيسابور) ببلاد فارس، فوالده (عبد الله الجويني) كان يعقد في (نيسابور) ببلاد فارس المجالس للمناظرة والفتوى، وتعليم الخاصة والعامة، وكان يحب العلم حبًّا شديدًا حتى إنه كان يدعو ويقول: (اللهم لا تعقنا عن العلم بعائق ولا تمنعنا عنه بمانع) وكان زاهدًا عابدًا يحرص حرصًا شديدًا على ألا يقع في الشبهات، حتى إنه كان يحتاط في أداء الزكاة فيؤديها في السنة مرتين، خوفًا من النسيان وزيادة في القربى. ولازم الطفل الصغير (عبد الملك) والده الفقيه المحدث المتكلم، فتعلم الفقه واللغة العربية على يديه، كما تعلم من والده الالتزام بأخلاق الإسلام كالأمانة والصدق وحب الخير؛ فقد كان والده خير قدوة له، وتفوق الجويني على زملائه ممن كانوا يتعلمون على يد أبيه، ولم يقتصر إمام الحرمين على قراءة العلوم الإسلامية وحدها، بل إنه أخذ يطالع في كل العلوم، يصل ليله بنهاره قراءة واطلاعًا. وقبل أن يبلغ (عبد الملك) سن العشرين أصبح أحد الأئمة الكبار، وما إن توفي والده، حتى قعد مكانه للتدريس، إلا أنه استمر في تحصيل العلم، فكان يذهب إلى (أبي القاسم الإسفراييني) وهو من العلماء الكبار يتعلم منه الفقه والأصول، ويذهب في الوقت نفسه إلى مجالس (عبد الله محمد بن علي النيسابوري الخبازي) ليتلقى عنه علوم القرآن. وظل طوال الفترة التي أقامها بنيسابور يدرس علوم الدين، وكان بارعًا في مناظرة الخصوم، يحاورهم في ذكاء شديد، ولا يبغي من وراء ذلك إلا إظهار الحق، إلا أن أعداءه أخذوا يكيدون له، فترك (نيسابور) إلى بغداد واشتهر هناك، ووفد إليه الناس من كل مكان للتعلم على يديه، لكنه لم يقم بها طويلاً، وإنما توجه إلى مكة، وظل بها أربع سنوات تفرغ فيها للعلم والعبادة ينشر العلم، ويلقي الدروس، ويجمع طرق المذهب الشافعي، وكانت هذه الفترة سببًا في تسميته بإمام الحرمين تكريمًا له واعتزازًا بمجهوده وقدره. وكان يقضي نهاره في تعليم الناس، وهدايتهم إلى طريق الحق والنور، ويقضي ليله بجوار الكعبة الشريفة في عبادة الله، وبعد أن قضى أربع سنوات في مكة رجع إمام الحرمين إلى (نيسابور) وقام بالتدريس بالمدرسة النظامية، التي بناها له الوزير(نظام الملك) ليتولى الجويني التدريس بها لما علمه عنه من رسوخ في العلم ونبوغ لم يتوافر لغيره، وظل بها نحو ثلاثين سنة، وجاء إليه الكثيرون من شتى البلاد يطلبون العلم على يديه، ومن أشهر تلاميذه: أبو حامد الغزالي، والكيا الهراسي، وعبد الغافر بن إسماعيل الفارسي. وقد ترك (الجويني) مؤلفات عديدة من أهمها: كتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب) وهو كتاب كبير في الفقه الشافعي و(البرهان في أصول الفقه) و(الإرشاد في أصول الدين) و(الرسالة النظامية) ومن كتبه أيضًا: (غياث الأمم في التياث الظلم) في الفقه السياسي الإسلامي و(الورقات) في أصول الفقه وأدلته.. وغيرها من الكتب المهمة، وقد مرض إمام الحرمين في أيامه الأخيرة، وتوفي وله من العمر 59 سنة، وكان ذلك سنة 478هـ. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
19 / 02 / 2010, 40 : 06 PM | المشاركة رقم: 20 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح عز الدين بن عبد السلام. قل لي بالله عليك.. مالك لا تخاف سطوةً ولا سلطانًا.. تهابك الملوك والسلاطين، وأنت الذي لا تحمل في يدك سوطًا ولا سيفًا؟! عفوًا يا سلطان العلماء، لا تجب، فقد تذكرت أنك كنت عبدًا طائعًا لله، تطيع أوامره، وتجتنب نواهيه، يعلو صوتك بالحق في وجه الطغاة، فمنحك الله قوة وعزة!! تمكن التتار من إسقاط الخلافة الإسلامية في بغداد عام 656هـ، وواصلوا غزوهم إلى الشام ومصر حاملين معهم الخراب والدمار، فهاجر إلى مصر والشام أعداد غفيرة من العلماء، وأصبحت هذه البلاد مركزًا للعلم حيث انتشرت فيها المساجد والمدارس، ووفد إليها طلاب العلم، من كل مكان ليدرسوا علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه والنحو والصرف والتاريخ، إلى جانب الفلسفة والفلك والهندسة والرياضيات.. وغيرها. وسط هذا الجو الذي يشجع على التعلُّم والدراسة، ولد بدمشق عام 577هـ (عز الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد السلام) ففتح عينيه على الحياة ليجد أسرته تعاني من الفقر وضيق العيش، ونشأ عز الدين على حب العلم، فسمع الحديث الشريف من العالم الجليل (فخر الدين ابن عساكر) الذي اشتهر بعلمه وزهده، وتعلم على يد قاضي قضاة (دمشق) الشيخ (جمال الدين بن الحرستاني) وغيرهما من الأساتذة الكبار، حتى أصبح عالمًا له مكانته المرموقة بين أساتذته. وكان منصب الخطابة في الجامع الأموي (بدمشق) منصبًا عظيمًا لا يتولاه إلا كبار العلماء، فتولاه (عز الدين بن عبد السلام) فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصدع بكلمة الحق، ولم يكن يخشى في الله لومة لائم، فحارب كل بدعة، وأمات كل ضلالة، وكان يقول: (طوبى لمن تولى شيئًا من أمور المسلمين، فأعان على إماتة البدع وإحياء السنن). وفي عام 635هـ ولاه السلطان الكامل الأيوبي قضاء دمشق، لكنه لم يستمر فيه طويلا، بل تركه في العام نفسه عندما تولى الحكم (الصالح إسماعيل) الذي كان على خلاف مع الشيخ عز الدين؛ لأن الملك الصالح تحالف مع الصليبيين، وأعطاهم بيت المقدس وطبرية وعسقلان، وسمح لهم بدخول دمشق، وترك لهم حرية الحركة فيها، وشراء السلاح منها، وفوق ذلك وعد الصليبيين بجزء من مصر إذا هم نصروه على أخيه نجم الدين أيوب سلطان مصر، فلم يرضَ الشيخ عز الدين بهذا الوضع المهين، فهاجم السلطان في خطبه من فوق منبر المسجد الأموي هجومًا عنيفًا، وقطع الدعاء له في خطب الجمعة، وأفتى بتحريم بيع السلاح للصليبيين أو التعاون معهم، ودعا المسلمين إلى الجهاد. غضب السلطان الصالح إسماعيل، وأمر بعزل (عز الدين) من إمامة المسجد الأموي، ومنعه من الفتوى والاتصال بالناس، ولم يكتف بذلك، بل منعه من الخروج من بيته، فقرر عز الدين الهجرة من (دمشق) إلى (مصر) فلما خرج منها عام 638هـ ثار المسلمون في (دمشق) لخروجه، فبعث إليه السلطان أحد وزرائه، فلحق به في نابلس، وطلب منه العودة إلى دمشق، فرفض، فقال له الوزير: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وإلى ما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتعتذر إليه وتقبل يده لا غير. فقال عز الدين: والله يا مسكين، ما أرضى أن يقبل السلطان يدي، فضلاً عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ.. الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، فقال له الوزير: قد أمرني السلطان بذلك، فإما أن تقبله، وإلا اعتقلتك، فقال: افعلوا ما بدا لكم!! واعتقله جنود السلطان في نابلس، وظل في محبسه، حتى جاءت جنود مصر وخلصته، وجاء الشيخ عز الدين إلى القاهرة عام 639هـ فرحب به (نجم الدين أيوب) سلطان مصر، وولاه منصب قاضي القضاة، وخطيب مسجد عمرو بن العاص، واشتهر الشيخ بالعدالة في القضاء، والجرأة في الحق، حتى أحبه الناس والتفوا حوله. وقد حدثت له حادثة أثناء توليه القضاء تدل على شجاعته وعدله: فقد أفتى العز بن عبد السلام أن أمراء المماليك حكام مصر في ذلك الوقت مازالوا عبيدًا رقيقًا، وأنه يجب بيع هؤلاء الأمراء لصالح بيت مال المسلمين وذلك لتحريرهم من عبوديتهم وعتقهم بالطريق الشرعي، حتى يجوز لهم أن يتصرفوا تصرف الأحرار، فكانت هذه الفتوى ضربة قاضية لهم، حطمت كبرياءهم، وعطلت مصالحهم بل إنهم أصبحوا مصدرًا لسخرية الناس بعد أن قوي نفوذهم، وزاد طغيانهم، وكثرت مظالمهم. غضب الأمراء المماليك غضبًا شديدًا، وقدموا شكوى إلى السلطان، وطالبوه بأن يقنع العز بن عبد السلام، بالعدول عن رأيه، فتحدث معه السلطان في ذلك، وطلب منه أن يتركهم وشأنهم، فغضب عز الدين واستقال من منصب قاضي القضاة، وعزم على مغادرة مصر، فحمل أمتعته على حمار، وحمل أهله على حمار آخر، وسار خلفهم على قدميه خارجًا من القاهرة؛ وعندما علم الناس خرجوا وراءه، فخاف السلطان من الثورة، وقال له أعوانه: متى خرج عز الدين من مصر ضاع ملكك!! فركب السلطان بنفسه ولحق بالشيخ وطيب خاطره، لكنه لم يقبل أن يعود معه إلى القاهرة إلا بعد أن وافق السلطان على بيع الأمراء المماليك في مزاد علني. رجع الشيخ وأمر بأن ينادي على الأمراء في المزاد، وكان من بين الذين سيباعون في المزاد نائب السلطنة، فغضب واشتد غيظه، ورفض أن يباع كما تباع الماشية، وصاح في كبرياء: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنه بسيفي. ركب نائب السلطان فرسه وأخذ معه جماعة من الأمراء، وذهبوا إلى بيت الشيخ يريدون قتله، وطرقوا الباب، فخرج ابن الشيخ فلما رآهم فزع ورجع إلى أبيه خائفًا يخبره بما رأى، ابتسم الشيخ في وجهه، وقال له: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج إلى أمراء المماليك، فنظر إليهم نظرة عزة وإباء، وأطال النظر إلى نائب السلطان الذي كان شاهرًا سيفه؛ فارتعدت مفاصل نائب السلطان وسقط السيف من يده، ثم بكى وسأل الشيخ أن يعفو عنه ويدعو له، وتمَّ للشيخ ما أراد وباع الأمراء في المزاد واحدًا واحدًا، وغالى في ثمنهم، ثم صرفه في وجوه الخير. وكانت لسلطان العلماء (العز بن عبد السلام) مواقف إيمانية في ميدان الجهاد ضد التتار أعداء الإسلام والمسلمين، وكان له دور فعال في هذا الأمر، ولم يَرْضَ أن تتحمل جماهير الشعب وحدها نفقات الجهاد، وهو يعلم أن السلطان ورجاله لديهم أموال كثيرة فقال: إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وأن يؤخذ كل ما لدى السلطان والأمراء من أموال وذهب وجواهر وحلي، ويبقى لكل الجند سلاحه، وما يركبه ليحارب عليه ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ أموال الناس مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال، فلا. وقد اشترك الشيخ (عز الدين) بنفسه في الجهاد المسلح ضد العدو، وكان دائمًا يحرض السلطان (قطز) على حرب التتار حتى كتب الله له النصر في (عين جالوت) عام 658هـ(1260م) وكان (العز بن عبد السلام) شجاعًا مقدامًا، فقد ذهب ذات مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد الأمراء والخدم والحشم يقبلون الأرض أمام السلطان، وشاهد الجند صفوفًا أمامه، ورأى الأبهة والعظمة تحيط به من كل جانب، فتقدم الشيخ إلى السلطان، وناداه باسمه مجردًا، وقال: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك مصر، ثم تبيح الخمور؟ فقال السلطان نجم الدين أيوب: هل جرى هذا؟ قال الشيخ: نعم تباع الخمور في الحانات وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، وأخذ الشيخ يناديه بأعلى صوته والعساكر واقفون. فقال السلطان: يا سيدي هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة.. فأصدر السلطان أوامره بإغلاق تلك الحانات، ومنع تلك المفاسد، وشاع الخبر بين جمهور المسلمين وأهل القاهرة، فسأل أحد تلاميذ الشيخ عن السبب الذي جعله ينصح السلطان أمام خدمه وعساكره في مثل هذا اليوم الكريم؟ فقال الشيخ: يا بني، رأيتُ السلطان في تلك العظمة، فأردتُ أن أذكره لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه.. قال التلميذ: أما خفته؟ قال عز الدين: والله يا بني، استحضرتُ هيبة الله تعالى فلم أخف منه. وكان (العز بن عبد السلام) رغم فقره كريمًا كثير الصدقات، فيحكى أنه لما كان بدمشق، وحدثت ضائقة، وعانى الناس من قلة المال، وانخفضت أسعار البساتين فأعطته زوجته مصاغها، وقالت: اشترِ لنا بثمنه بستانا نصيِّف فيه، فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه، فسألته زوجته: هل اشتريت لنا بستانًا؟ قال: نعم، بستانًا في الجنة، إني وجدت الناس في شدة، فتصدقتُ بثمنه، فقالت: جزاك الله خيرًا. وعاش الشيخ (عز الدين) 83 عامًا يدعو إلى الله ويجاهد في سبيله، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلى أن توفي عام 660هـ، فخرج الرجال والنساء والشباب والأطفال يودعون سلطان العلماء، وصلى عليه سلطان مصر والشام -في ذلك الوقت- الظاهر (بيبرس). وقد أشاد به العلماء والمؤرخون حتى أطلق عليه تلميذه شيخ الإسلام (تقي الدين بن دقيق العيد) لقب (سلطان العلماء).. رحم الله العز بن عبد السلام رمز العزة والإباء. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
For best browsing ever, use Firefox.
Supported By: ISeveNiT Co.™ Company For Web Services
بدعم من شركة .:: اي سفن ::. لخدمات الويب المتكاملة
جميع الحقوق محفوظة © 2015 - 2018